ماذا يعرف الناس عمّا يجري في المصحّات العقلية في العالم العربي المعاصر؟ لا شيء بتاتاً. فهذه المؤسسات مبنية على الكتمان، لا لأنها تشبه المصحّات العقلية التي كانت تلعب دور السجون السياسية في الاتحاد السوفياتي السابق، بل لأسباب أكثر سذاجة تعود الى ادراكها بأنها عاجزة عن حلّ الأمراض النفسية التي يحملها اليها كمّ هائل من المعذَّبين النفسيين والعصبيين. والواقع أن الاحتكاك بهذا العالم، من الداخل، سرعان ما يبيّن أن مشكلة الأمراض النفسية في بلادنا لا ترتبط بالمرضى أنفسهم بقدر ما ترتبط بالمجتمع الذي ينتمي اليه هؤلاء المساكين. واللافت هو أن هذا الجانب من المعادلة المرضيّة يبقى مستوراً، حفاظاً على ماء وجه جاهل، في بلدان العالم العربي كافة. أما البلد الوحيد الذي بإمكاننا مشاهدة ومتابعة هذا الموضوع فيه بشفافية نسبيّة فهو لبنان، المعتاد أكثر من سواه على الشفافية الاجتماعية، انسجاماً مع تقاليده الإعلامية المبنيّة على الحرية. بعدما أمضت ممرضات عدة من طلابي أسبوعين كاملين في مستشفى دير الصليب للأمراض النفسية والعقلية - وهو الأكبر حالياً في لبنان - تبيّن لهن أمران: أولهما أن قسماً كبيراً من مرضى هذا المستشفى يغادرونه للعودة الى بيوتهم مع أهلهم، ثم يعودون أدراجهم الى المصح في اليوم نفسه، بصحبة أهلهم مرّة جديدة. أما الأمر الثاني فهو أن كثافة نزلاء المستشفى من المرضى تزداد في فترات الأعياد بدل أن تتضاءل وتنقص. والواقع أن هاتين الظاهرتين تستحقان منّا وقفة تحليلية لغزارة مغازيهما ودلالاتها الاجتماعية. ماذا يعني أن يعود المريض هرولة الى المستشفى، بعدما اعتبره أطباؤه معافى من الناحية الصحية وسمحوا له بمغادرة المصح؟ يعني ذلك، بكل بساطة، أن مريض النفس والأعصاب في بلادنا لا يشعر بمأمن في حضن بيئته الأسرية والاجتماعية، فيفضّل على هذه البيئة مناخ المصح حيث يشعر بأنه بمنأى عن أذى الآخرين. والواقع أن مجتمعنا شديد القسوة، بما فيه الأهل، مع المصابين بأمراض نفسية وعصبية سرعان ما تُنعت بپ"العقلية". فالمريض الذي مرّ بحالة انهيار غالباً لعدم تمكّنه من مقاومة ضغط المحيط الاجتماعي عليه يوضع في مصاف المجانين، في الحارة والحي والبناية والقرية. إذ أن خوف الناس من الإصابة بدورهم بزلّة مرضية مشابهة يجعلهم يعكسون مشاعرهم الرُهابية هذه عدوانيّة تجاه مرضى الاعصاب والمرضى النفسيين. أولاد الحارات، كما أهاليهم، لا يزالون يهزأون بغير أسلوب من هذا المريض الشديد الحساسية والذي سرعان ما يشعر بضغط المجتمع عليه، بالنظرات والإشارات والهمسات، بحيث أنه يتذكر عظمة مشكلته تجاه الآخرين، فيتمنّى العودة الى أحضان الممرضات المتفهمة بدل البقاء بين الآخرين، أصحاب المواقف الاتهامية الصامتة. ويبدو أن الحرب لم تتمكن من تغيير هذه المعادلة الاجتماعية التقليدية الموجودة بين المريض النفسي والمجتمع. إذ لا تزال العقبة عقبة معرفية، في البنيان الفكري وفي كيفية فهم مرض المريض النفسي. لم ينتقل المجتمع اللبناني معرفياً، لا هو ولا أي مجتمع من منطقة أخرى، من موقع قبول جماعي لوجود هذا المسكين، المختلف في مرضه، الكائن داخل رأسه وليس في أحد أعضائه أو غدده. والاستهجان العام هذا إنما يبدأ في محاولة أسرة المريض اخفاء مرضه، الأمر الذي يتحوّل حتى الى محاولة اخفاء المريض عن الأنظار كلياً. إذ لا يدعى أحد لزيارته، بل يرد السائل على أعقابه في معظم الأحيان بحجّة ان المريض "يرتاح" لوحده. فالمريض النفسي يزداد مرضاً وتتفتح جراحه عندما يلمس موقفاً من هذا القبيل، سواء صور عن قريب أو غريب. لذلك ينطوي المريض على نفسه ويعود الى نواة مرضه المغلقة بسرعة فائقة، فيطالب أهله بعدما وضعهم في خانة واحدة مع "الآخرين" بالعودة الى المستشفى. ولا يرى الأهل أفضل لمشكلة مريضهم ومشكلتهم، سوى حمله والعودة به في اليوم نفسه الى المصح. ويكونون بذلك قد عبّروا عن فشلهم المتعمَّد في مساعدة مريضهم في اعادة الانصهار الاجتماعي التي هي شرط الشفاء الأول والأخير. فالمريض النفسي يعاني من مشكلة في العلاقة مع الآخرين. ولا تنفع لذلك معالجته بالمهدئات والصدمات الكهربائية التي غالباً ما لا تتناول سوى القشرة السطحية لمرضه الدفين. المريض النفسي والعصبي - وهذا ما يعرفه تماماً الأهل، إذ يكرّره على مسامعهم تكراراً المسؤولون في المصح قبل مغادرتهم حرمه - بحاجة الى عملية اعادة صهر ناجحة، قبل أي شيء آخر، في محيطه الاجتماعي العام. وعندما تفشل هذه العملية - أو تُفَشَّل - فلا عجب في أن يفضّل المريض المصح على بيته، والممرضات والأطباء على أهله، اذ يشعر بأن المصح، كمجال مكاني، هو حيّز جغرافي غير منحاز، لا هو معه ولا هو ضده: انه مجرد قاعة للانتظار كبيرة ومريحة. أما في ما يتعلق باكتظاظ المستشفيات المتخصصة بمعالجة الأمراض النفسية والعصبية بالمرضى أثناء فترة الأعياد، فسلبية أخرى تُضاف الى الأولى، على صعيد علاقة أهل المريض بمعذَّبهم الذين يعاملونه وكأنه معذِّبهم هم. إذ تدفع أنانية بعض الأهل، مع اقتراب فترات الأعياد، الى "معالجة" مريضهم على طريقتهم. فيعمد هذا البعض والذي هو أكثر من بعض عادي الى قطع الأدوية عن مريضهم قبل الأعياد بأسبوعين أو ثلاثة، أو قبل مناسبة عائلية كبرى كزفاف أحد أفراد الأسرة بأسبوع أو أسبوعين، كي ينتكس وضع المريض، فتتبرّر تلقائياً بعدها اعادته الى المصحّ، بحجّة انه لم يعد طبيعياً. كان الكاتب الروسي دوستويفسكي أشار الى أن كلبيّة الإنسان لا حدود لها عندما يقرر هذا الإنسان إيذاء الآخرين. أما هنا فالمسألة أشدّ قسوة وفظاعة لأنها تورِّط أهلاً يتواطأون على ابنهم أو بنتهم أو أمهم أو والدهم، فيغدو المشهد عندها أكثر قتامة من المشاهد الروسية القيصرية الغابرة. الأطباء والممرضات أدركوا ذلك منذ زمن، لكنهم يتواطأون هم أيضاً مع الأهل، بقبولهم المكثف للمرضى خلال تلك الفترات، تخفيفاً لآلام المريض الذي يصلهم في غالب الأحيان في حالة عصبية يرثى لها. ان المسؤولية عما يجري تغدو بنيوية وعامة. فالبنية الاجتماعية ككل، داخل المصحّ وخارجه، تعمل بشكل مدرك ولكن غير مُعلن على ابقاء معادلة العذاب النفسي على ما هي عليه. فلا الأهل يتحملون جدياً مسؤولية صهر مريضهم الاجتماعي، بعد مغادرته المصح، ولا الأطباء وأهل المستشفى يتمكنون من ضبط هذه الحلقة المفقودة من عملية العلاج، بحيث يبقى المريض النفسي أسير معادلة عامة تبقيه حيث هو. لذلك يشبه حالنا، في المصحّات النفسيّة، حال مستشفيات القرون الوسطى في أوروبا، والتي كان يُطلق عليها اسم "مستشفيات الرب". إذ أن أهل المريض كانوا يأتون بمريضهم الى هذه المستشفيات لا لكي يشفى بل تمهيداً لموته. كان يكفيهم فقط أن معالجة "الأطباء" له كانت وقتها معالجة روحية، ولم يكن هناك من أطباء في هذه المستشفيات، بل مجرد راهبات يساعدن المرضى على الصلاة طوال النهار واستقبال الموت استقبالاً روحياً. تبدو الأمور عندنا على هذا النحو من دون الإفصاح عن جوهرها المعيش. إلا أن معاملة الأهل لمريضهم النفسي، في المصحّ والبيت والمجتمع، شديدة التشابه المعنوي مع ما كان يجري في مستشفيات القرون الوسطى الأوروبية. فالأهل الذين يأتون بمريضهم، ربما يصرّحون بأنهم يرغبون في أن يتعافى من مرضه النفسي، إلا أنهم، في الممارسة، يبقونه في معظم الأحيان في مقر مشكلته، معالجين تجلياتها الخارجية فقط، تارة على طريقة المصح وبالتكنولوجيا الحديثة وطوراً على طريقتهم الخاصة. حزين هو هذا الواقع وحزينة هي هذه المصحّات التي تفشل في تخليص المريض النفسي من مرضه. صحيح أن المريض الأكبر هو المجتمع، بينما المريض الاصغر هو هذا المسكين أو تلك المسكينة... اولئك الذين يؤتى بهم الى المصحّ لا لشفائهم بل لابعادهم عن الأنظار ولابقائهم بعيداً عن حياة "طبيعيّة" لا تدرك، ولا حتى تريد أن تدرك، بأنها تعاني من أمراض بنيوية ومعرفية لا حصر لها. فالمريض النفسي يعلن مرضه، أما المجتمع المريض فيكتمه... ويتصرّف وكأن الدنيا بألف خير.