ما اكثر ما نلحظ عندنا هذه الايام، والقرن موشك على النهاية، الاعلان تلو الآخر، عن مهرجانات وندوات فكرية من طرف كثير من المؤسسات والهيئات الرسمية وغير الرسمية، لتخليد نهاية القرن والتهيؤ لاستقبال الآخر. فهذا يتساءل عن "مستقبل الثقافة العربية في أفق القرن المقبل؟" وذاك عن "حصيلة القرن الذي نودعه" الخ… والواقع ان تصيّد لحظات الانعراج وتخليد البدايات من الامور التي اصبحت عندنا عادة مترسخة. فنحن لا نفتأ نحيي الذكرى تلو الاخرى، ونخلّد البدايات مع من يخلدّها ونودع السنوات مع من يودعها. قد يقال: ليس هذا الا علامة صحة نفسية. فالانسان بما هو كذلك، لا يحيا الواقع في جفافه وجفائه، ولا يحيا الزمان في انفلاته وعبوره، وانما هو يسعى جهده ان يرسّخ اللحظة ويلوّن الواقع، فيجعل البدايات تدوم، ويعبّر عن حنين دائم الى الجدة، وأمل في ان يكون بإمكانه بداية تاريخ جديد في عالم مستحدث "مستأنف النشأة". لذا فهو يتعجل لينفض يده مما مضى ويثبت حصيلة ما تم كي يبدأ من جديد، او على الاصح كي يربط نفسه من جديد مع ما كان بداية ونقطة انطلاق. لكن ما لا ينبغي ان يغيب عن اذهاننا هو البنية الاسطورية لكل هاته المهرجات التي تحاول ان تخلّد البدايات، موهمة نفسها بدوام التجدد واسترساله. ذلك ان من اهم وظائف الاسطورة كونها تجعلنا بالضبط متفتحين على الزمان الخالد، قادرين على الاسترجاع الدوري لهذا الزمان الاساس، وبالتالي على الانفصال الدوري عن "الظرفيات" التاريخية. صحيح ان للاسطورة نصيبها من الواقع، بل مفعولها عليه، فهذا الانفصال الدوري من شأنه ان يغذي "الظرفين" ويلقحه وينفخ فيه روحاً جديدة، الا انه قد يصبح في بعض الاحيان، هو الزمانية الوحيدة التي يعيشها الانسان الذي قد يرتاح الى هذا الخلود الوهمي فتغدو الاسطورة بالنسبة اليه، لا نصيباً من الواقع، بل كل الواقع. وحينها يغلف زمن الاسطورة الزمانية الدنيوية، يتكاثر احياء الذكريات، وتصيد المنعرجات، وتخليد البلدايات ويعمّ الحنين الدائم الى الاصول التي لا تكفّ عن الابتداء.