وصلت الديون الخارجية للدول العربية الى حدّ لا يطاق فهي ناهزت 250 بليون دولار اي ما يعادل نصف الناتج المحلي الاجمالي العربي. وارتفعت خدمة الديون سداد الاصل والفوائد مقارنة بالموارد الخارجية ما ساهم بصورة فعّالة في اختلال موازين المدفوعات. وبلغت ازمة السداد درجة من الحدّة لدرجة لم تعد معها القروض الجديدة تكفي حتى لتمويل الديون القديمة وبطبيعة الحال، يجب ان تكون التحويلات الصافية ايجابية، اي ان تكون القروض الجديدة من خدمة الديون القديمة. وبعكس ذلك تستنزف الايرادات المالية الخارجية وتضعف تدريجاً قابلية الدولة التجارية وتهبط المدخرات والاستثمارات فتتعثر التنمية. خلال الفترة الواقعة بين 1989 و1994، حصلت الدول العربية على قروض بمبلغ 75440 مليون دولار وبلغت خدمة ديونها 91218 مليون دولار، اي انه كان ينبغي دفع 121 دولاراً مقابل كل 100 دولار مقترضة. ولأنه لا يوجد اي ايراد رغم استمرار تدفق القروض باتت التحويلات الصافية لصالح المؤسسات والدول المقترضة. وهكذا اصبحت الديون الخارجية من الاسباب الاساسية للتخلّف الاقتصادي. امام هذا الوضع المتأزم، لجأت الدول العربية المثقلة بديونها الى اعادة الجدولة تأجيل السداد فطبّقت تحت اشراف صندوق النقد الدولي سياسات تقشفية في مختلف الميادين الاقتصادية وأدخلت تعديلات على انظمتها الضريبية والنقدية. لا اعتراض على ضرورة مواجهة اختلال التوازنات المالية فمن العبث التصدي للمديونية تحت ظل مالية عامة مهزوزة، الا ان المشكلة تتعلق بصرامة الاجراءات التي قادت الى تنصل القطاع العام من ايجاد فرص جديدة للعمل والى ارتفاع الضغط الضريبي وتقليص النفقات ذات الطابع الاجتماعي وتدهور القيم التعادلية للعملات المحلية. وبالتالي تراجع مستوى معيشة 160 مليون عربي ينتمون الى هذه البلدان. احدث هذا الوضع ردود فعل شعبية عنيفة احياناً وندّدت بسياسة الصندوق الذي اطلق عليه احد الرؤساء العرب اسم صندوق "النكد" الدولي. ثم انتهى الصراع بين الحكومات العربية والصندوق لا فقط بسبب الحاجة لتسهيلات مالية جديدة بل كذلك وفي صورة خاصة لدوره في اعادة برمجة الديون والغاء جزء منها. ولا يحدث هذا او ذاك الا بتطبيق البرامج التصحيحية المعدّة من قبل المؤسسة الدولية. وهكذا بدت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وكأنها ناجمة عن هذه البرامج في حين تعود الأزمة الحقيقية الى السياسات المحلية غير المناسبة والى تردي العلاقات العربية البينية التي افضت الى تفاقم المديونية الخارجية. سبب المديونية عسكري لا شك ان اسباب المديونية كثيرة ومتشعبة، لكن يجب عدم تبرير الازمة بعوامل ثانوية واحياناً واهية. يقولون ان الركود الاقتصادي للدول الصناعية يعيق نمو الصادرات العربية فتظهر مشكلة سداد الديون لان حصيلة الصادرات هي الوسيلة الاساسية للوفاء بالالتزامات المالية الخارجية. ويقولون ايضاً ان اسعار الفائدة في القروض مرتفعة مما افضى الى تزايد خدمة الديون. وان الادخار المحلي ضعيف مقارنة بالمشاريع الطموحة لذلك تحتاج غالبية الدول العربية الى اموال اضافية لتطوير بنيتها التحتية وتحسين قدراتها الانتاجية وتنمية صادراتها. والواقع ان هذه الآراء مقتبسة من نظريات غربية لا تصلح لتحليل خصوصيات المديونية العربية. ومن الناحية العملية، لم يقد الركود الاقتصادي الى هبوط صادرات البلدان العربية المثقلة بالديون. فعلى سبيل المثال، انتقلت حصيلة صادرات المغرب من 2042 مليون دولار في عام 1980 الى 7272 مليون دولار في عام 1996 في حين ارتفعت ديونه خلال هذه الفترة من 9129 الى 23512 مليون دولار. وتنطبق هذه الملاحظة على بقية الدول العربية المدينة. وتفاقمت الديون في الوقت الذي اتجهت فيه اسعار الفائدة في العالم نحو التباطؤ. اضف الى ذلك ان اغلب الديون العربية الرسمية ناجمة عن مساعدات او قروض بشروط ميسرة، اي ان اسعار الفائدة فيها منخفضة وثابتة. كما لا تشكو البلدان العربية المدينة من ضعف مدخراتها بقدر ما تعاني من عدم فاعلية السياسات المالية والاقتصادية في توجيه الاموال العامة نحو الاستثمار النافع. وان الجزء الاكبر من القروض لم يخصص للتنمية بل لشراء معدات عسكرية ولتمويل مشاريع ضعيفة الانتاجية. وعلى صعيد آخر لا علاقة لأزمة الديون بالتنمية اذ عرفت البلدان العربية على اختلاف مستوياتها الاقتصادية تطوراً ملموساً في الستينات من دون حاجة فعلية للتمويل الخارجي. لذلك لم تكن مشكلة المديونية مطروحة بحدة، الامر الذي يجرنا الى الاعتقاد الشديد بأن التنمية ليست سبباً لاستفحال الازمة بل ان تعثر التنمية هو الذي قاد الى ذلك. فلو استخدمت القروض لتدعيم النمو الاقتصادي لما تفاقمت الديون لأن النمو سيكون كفيلاً بتحرير المجتمع من التزاماته المالية. تتسم مصروفات الدفاع والامن بعدم خضوعها للضوابط المالية والمؤشرات الاقتصادية بسبب الصراعات العسكرية واعتماد انظمة الحكم على الجيش. لذلك عندما لا تتوافر الامول في الداخل، لا تتردد الحكومات في الاقتراض من الخارج لشراء المزيد من الاسلحة المتطورة غير مكترثة بكيفية سداد الديون لاحقاً. القطاع العسكري غير منتج بطبيعته في الدول العربية. انه على عكس نظيره في البلدان المتقدمة لا يساهم في زيادة الانتاج ولا يخلق فرص عمل نافعة للمجتمع لان غالبية الاسلحة غير مصنّعة بالداخل بل مستوردة. علماً بأن هناك مجالات واسعة لتطوير التصنيع الحربي من طريق نقل التكنولوجيا من الدول الصناعية. ونتيجة لتقلص الانفاق العسكري العالمي، احتدت المنافسة بين الدول المصدّرة للاسلحة ما افضى الى التوسع في منح تسهيلات وامتيازات مختلفة لاغراء المشترين، يطلق عليها اسم التعويضات. وعلى خلاف غالبية الدول المستوردة للاسلحة، لم تستغل الدول العربية هذه المنافسة للاستفادة من التكنولوجيا الحديثة. فعندما اشترت باكستان في عام 1994 ثلاث غواصات فرنسية اشترطت ان تجمع الاولى وتصنع الثانية في كراجي. ولم تصنع سوى الثالثة في ميناء شيربور الفرنسي، في حين عندما اشترت دولة عربية في عام 1993 دبابات من طراز "لكلير" بمبلغ 21 بليون فرنك فرنسي اشترطت اقامة مصنع لانتاج مكيفات الهواء علماً بأن مبلغ هذه الصفقة يعادل اربعة اضعاف مبيعات الغواصات. ثم ان الاسلحة حتى وان انتجت محلياً، فان اي مبلغ يرصد لها يحجب عن القطاعات الانتاجية وكنتيجة نهائية يهبط الناتج المحلي الاجمالي وتتفاقم المديونية. اذا اجرينا العمليات الحسابية انطلاقاً من الاحصاءات الرسمية المنشورة في التقرير الاقتصادي العربي الموحد الصادر عن جامعة الدول العربية، نلاحظ ان الدول العربية انفقت خلال العشر سنين الماضية نحو 650 بليون دولار على قطاع الدفاع والأمن. لو رصد نصف هذا المبلغ فقط لخدمة الديون والغذاء لأمكن تحرير ذمة الدول العربية من جميع التزاماتها الخارجية ولأمكن ايضاً اطعام عشرة ملايين جائع لمدة عشرين سنة. في عام 1995 خصص الأردن وسورية والمغرب ومصر للدفاع والأمن 723 و2498 و2501 و4420 مليون دولار على التوالي. ووصل المعدل العام لهذه النفقات العسكرية تسعة في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في حين ان المعدل العالمي الذي يتجه نحو الهبوط المستمر لا يتجاوز ثلاثة في المئة. وخلال الفترة الواقعة بين 1978 و1988 استوردت الدول العربية أسلحة بمبلغ يعادل 14 في المئة من الناتج الاجمالي لها مول نصفه عن طريق القروض الخارجية. وخلال الثمانينات شكلت الواردات العربية من الأسلحة نحو نصف واردات العالم العسكرية. ويفترض التخلص من الديون وتستوجب التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضغط على المصروفات العسكرية. عندئذ ترتفع الاستثمارات الوطنية والأجنبية وينمو الانتاج فيتقلص عبء المديونية ولا يتحقق ذلك الا في اطار السلام. وترى هل سيقود التعاون مع اسرائيل الى تقليص الانفاق العسكري العربي؟ بتقديرنا ان ربط ارتفاع الانفاق الحربي العربي بالوجود الاسرائيلي أمر غير صحيح وبالاستعاضة لا يصح ربط امكان تقليص هذا الانفاق بالتطبيع مع اسرائيل اذ تتطلب المواجهات العسكرية العربية الفعلية ضد اسرائيل نفقات باهظة لعدم استمرارها فترة طويلة. فالحروب الأخيرة لم تدم سوى بضعة أيام. في حين خاض العراق حرباً ضد ايران لمدة ثمان سنين كلفته 145 بليون دولار فأصبح البلد مثقلاً بالديون بعد ان كان مانحاً للمساعدات. ولا يزال المغرب يحارب في الصحراء الغربية منذ 22 سنة ما أفضى الى تفاقم ديونه الخارجية التي وصلت الى 23 بليون دولار. أضف الى ذلك الصراعات الأهلية المدمرة في اليمن ولبنان والسودان. ولم تكن هذه الحروب الخارجية والداخلية موجهة ضد اسرائيل كما لا ترمي البلايين من الدولارات التي تنفق سنوياً على التسلح في الخليج الاستعداد لمواجهة عسكرية ضد الدولة اليهودية. وبالتالي لن يكون لعمليات التطبيع السياسي والتعاون الاقتصادي أي أثر على تقليص النفقات الدفاعية العربية وعلى ثقل المديونية. شروط سياسية للتخفيف من الأزمة لا تقتصر العوامل السياسية على أسباب المديونية بل تشمل أيضاً كيفية معالجتها من طريق اعادة الجدولة والغاء الالتزامات. تجري المعالجة عادة في نادي باريس الذي يختص بالنظر في الجزء الأكبر من ديون الدولة العربية. ولما كان النادي يترجم سياسات الدول السبع الكبرى الولاياتالمتحدة وكندا واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا تصبح قراراته ذات طابع سياسي. فقد يمنح امتيازات سخية لدولة معينة كالغاء الديون ويمتنع عن تقديم الحد الأدنى للتسهيلات لدولة اخرى بغض النظر عن حالتهما الاقتصادية وعن عبء ديونهما الخارجية. ومن المفيد الاشارة الى التجربتين الأردنية والمصرية. ففي بداية عام 1990، وافق صندوق النقد الدولي على لجوء الأردن الى نادي باريس لاعادة جدولة ديونه الرسمية والى نادي لندن فيما يتعلق بديونه المصرفية غير المضمونة. لكن الترتيبات كانت بطيئة جداً حتى اندلعت أزمة الخليج فعارضت الحكومة الأردنية أي تدخل عسكري أجنبي في المنطقة ونددت بالحرب ضد العراق. وعانى الأردن من تلك الأزمة لارتباط قطاعاته الاقتصادية بالاقتصاد العراقي من جوانب عدة. وبدلاً من تقديم المساعدات المستعجلة له، علقت اجراءات التفاوض مع الناديين فارتفعت خدمة ديونه وتراكمت متأخرات الفوائد. لم يتم التفاوض الا في مارس 1992 اذ اعيدت برمجة 900 مليون دولار في اطار نادي باريس و500 مليون دولار في اطار نادي لندن. ثم تغيرت الأحوال بعد عقد معاهدة السلام مع اسرائيل فانخفضت خدمة الديون الاردنية بنسبة عالية نتيجة لتأجيل دفع الديون من جهة وإلغاء الديون المستحقة لمجموعة نادي باريس من جهة اخرى. فقد الغت الولاياتالمتحدة 696 مليون دولار من ديونها على الأردن والبالغة 950 مليون دولار. وقررت بريطانيا وألمانيا اعفاءات اخرى. وبالنتيجة النهائية هبط الحجم الكلي للديون الخارجية الأردنية من 186 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في عام 1991 الى 108 في المئة في عام 1996. لكن حذف الديون لا يعالج الازمة بسبب العجز المزمن والكبير للميزان التجاري الذي بلغ نحو بليوني دولار. اضافة الى ان الميزان الجاري يعاني من نفس المشكلة وبالتالي لا تجد الدولة بداً من مواصلة الاعتماد على القروض الخارجية وهو وضع سيقود الى ارتفاع ثقل المديونية مجدداً في السنين المقبلة. وحصلت مصر على امتيازات مالية مهمة مقابل دورها في الشرق الأوسط. ففي مايو 1991 اذ تقرر الغاء 50 في المئة من ديونها الخارجية المستحقة لدول نادي باريس. ووفق وجهة نظر الحكومة المصرية لا بد من هذا الاجراء لأن الدولة تحملت خسارة بمبلغ 20 بليون دولار بسبب ازمة الخليج التي أدت الى انكماش الصادرات والى انخفاض تحويلات العمال المهاجرين نظرا لعودة عدد كبير منهم الى بلدهم. ولا شك ان مشاكل مصر المالية والاقتصادية كثيرة ومعقدة وان حكومتها تبذل الجهود اللازمة لمعالجتها وان الغاء بعض الديون يساهم في خلق مناخ مناسب للتنمية. ولكن يجب الا يتم ربط هذا الالغاء بخسارة لم نجد لها اثراً في الاحصاءات العربية والدولية التي تشير الى تحسن مركز ميزان المدفوعات المصري بسبب ازمة الخليج، اذ ارتفعت الصادرات المصرية وتغير كليا مركز الميزان الجاري الذي سجل فائصاً بمبلغ 209 مليون دولار في عام 1990 وبمبلغ 2274 مليون دولار في عام 1991 بعد ان كان يعاني من عجز طيلة السنين السابقة. وشهدت المساعدات الانمائية الخارجية لمصر زيادة هائلة من 1569 مليون دولار في عام 1989 الى 5446 مليون دولار في عام 1990، اي بزيادة قدرها 247 في المئة ولا توجد دولة اخرى سجلت مثل هذا الارتفاع الكبير. ولا يستند تحرير ذمة مصر على اسس اقتصادية او مالية بل على اعتبارات سياسية بحتة تتجلى في مساهمتها الفاعلة الى جانب الدول المتحالفة ضد العراق والى دورها في تحسين العلاقات العربية مع اسرائيل. فمنذ انشاء نادي باريس في عام 1956 وحتى الآن، لم تحصل اية دولة في العالم باستثناء بولونيا على تسهيلات اكثر من تلك التي منحت لمصر. وقد اكد البيان الاقتصادي الختامي لمؤتمر الدول السبع الكبرى المنعقد بلندن في يوليو 1991 على الطابع الاستثنائي لهذه التسهيلات. في اشارة واضحة موجهة للبلدان النامية المثقلة بديونها الى عدم امكان حصولها على معاملة مماثلة. ولكن بدأ العد العكسي لأهمية الدور المصري على اثر اقامة علاقات ديبلوماسية واقتصادية بين اسرائيل والكثير من الدول العربية. فتقلصت المساعدات الخارجية الممنوحة لمصر حتى وصلت في عام 1996 الى ثلث ما كانت تحصل عليه خلال ازمة الخليج. وظهر من جديد عجز في الميزان الجاري المصري ما قد يضطر الدولة الى اللجوء مراراً الى الاقتراض الخارجي فتتراكم مرة اخرى ديونها الخارجية. وتحت ظل الظروف الدولية الحالية المتسمة بتزايد المشاكل الاقتصادية للدول الغربية والتطورات الحديثة لمنطقة الشرق الأوسط لن يصبح بامكان مصر الحصول على اعفاءات جديدة. أدت العوامل السياسية الى تفاقم الديون الخارجية وتردي الاوضاع الاقتصادية في الدول العربية التي أصبحت مضطرة الى تقديم التنازلات للتخفيف من حدة الازمة. بيد ان العجز المزمن للموازين الجارية الناجم بالدرجة الأولى عن التسلح سيقود الى استفحال المديونية. وعلى هذا الأساس، لا يمكن معالجة المشاكل الاقتصادية في صورة عامة والديون الخارجية في صورة خاصة الا من طريق انهاء الصراعات السياسية والتوترات العسكرية التي تتخبط بها المنطقة والتي انهكت المالية الخارجية وأثرت بشدة على مستوى معيشة المواطنين.