من تابع حركة الأحداث على المسرح العالمي خلال الربع الأخير من 1997 لاحظ أن ثمة شواهد تدل على اتجاه عدد من اللاعبين الدوليين للخروج على النص الأميركي الذي تحاول الولاياتالمتحدة من خلاله فرض تصوراتها لتسيير التفاعلات الدولية على المستوىين السياسي والاقتصادي. وسنبدأ أولاً بعرض لأهم هذه الشواهد، ثم نحاول أن نقدم تحليلاً لأبعادها المستقبلية وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى ما يلي: 1- توقيع مجموعة توتال الفرنسية بالتعاون مع شركة ماليزية وروسية عقد تطوير حقول الغاز الطبيعي الايرانية ببلايين عدة من الدولارات وهو ما يمثل تحدياً مباشراً لقانون داماتو الأميركي الذي يفرض عقوبات على الشركات التي تبرم عقوداً مع إيران وليبيا والعراق وكوبا تزيد على عشرين مليون دولار. 2- الأزمة العراقية مع الاممالمتحدة والتي بدأت بإعلان بغداد طرد المفتشين الأميركيين العاملين في لجنة التفتيش على اسلحة الدمار الشامل العراقية بدعوى أنهم يتجسسون لحساب الولاياتالمتحدة. وأيا كان التقويم للموقف العراقي، فقد نتجت عنه تفاعلات ذات دلالات مهمة إذ حاولت الولاياتالمتحدة وبريطانيا استخدام القوة العسكرية لإرغام النظام العراقي على التراجع عن موقفه، إلا أنها وجدت صعوبات عدة من جانب أعضاء مجلس الأمن الاخرين. وقام وزير الخارجية الروسي يفغيني بريماكوف بدور مهم في التوصل الى اتفاق مع العراق ونزع فتيل الأزمة. والواقع ان الأزمة العراقية أفصحت عن وضع جديد في نطاق مجلس الأمن. فالولاياتالمتحدة لم تستطع تمرير القرار الذي كانت تريده تجاه العراق بسهولة كما كان الوضع من قبل، كما أكدت هذه الأزمة أن المجتمع الدولي قد لا يقبل بالضرورة كل ما تراه الولاياتالمتحدة. 3- موقف الدول العربية الرئيسية من مؤتمر الدوحة الاقتصادي: فقد مثل رفضها المشاركة في المؤتمر نتيجة لتعثر جهود السلام في الشرق الأوسط، لتعنت اسرائيل، أحد الأحداث المهمة في سياق موقف الاطراف الدولية المختلفة من السياسة الأميركية. 4- اجتماع مجموعة الدول الخمس عشرة في كوالالمبور والذي ناقش مجمل أوضاع النظام الاقتصادي العالمي القائم، وتوصل المشاركون إلى تقويم مشترك لهذا النظام باعتبار انه تم وضعه بما يتوافق وتحقيق مصالح دول الشمال القوية الغنية وعلى حساب دول الجنوب، ودعا المؤتمر في بيانه الختامي إلى إعادة رسم العلاقات بين الشمال والجنوب بما يتوافق وتحقيق مصالح الطرفي. والمهم أنه قدم بعض التصورات والأفكار الجديدة حول النظام الاقتصادي العالمي لا تتوافق في بعض جوانبها مع الرؤى الأميركية. 5- القمة الإسلامية في طهران حيث مثّل الحضور العربي نموذجاً آخر من نماذج الخروج على النص الأميركي من جانب خمسين دولة إسلامية، فيما طهران تواجه سياسة الاحتواء المزدوج الأميركية. إن هذه الأحداث التي سبقت الإشارة اليها توضح أن ثمة اتجاهاً للخروج على الرؤية الأميركية التي حاولت الولاياتالمتحدة فرضها على سياق التفاعلات الاقتصادية والسياسية الدولية. وهذا الوضع الجديد يجب قراءته قراءة صحيحة بعيداً عن المبالغة والتحليل بالتمني، فهو لا يعني حدوث تحول جذري في نطاق علاقات القوة على المستوى العالمي، كما أن الولاياتالمتحدة لن تقبل بسهولة التنازل عن موقعها المتميز بين القوى العالمية الكبرى، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة حتى الآن. ومن ثم فالقراءة الصحيحة لهذا الوضع الجديد تتمثل في أن هناك محددات موضوعية تواجه محاولة انفراد الولاياتالمتحدة وضع إطار تحكمي للتفاعلات الدولية وفقا للمقاييس والمصالح الأميركية. وأهم هذه المحددات ينبع من طبيعة علاقات القوة بين أطراف النظام العالمي الكبار في صورته القائمة الان، والتي تتمثل في ضرورة ادارة هذه العلاقات على أسس من التراضي والتوافق فيما بينها، وليس من خلال اسلوب غطرسة القوة الذي ارادت الولاياتالمتحدة استخدامه من قبل. وهناك مجموعة أخرى من المحددات تنبع من خاصية الاعتماد المتبادل التي تميز العلاقات الدولية المعاصرة. هذه الخاصية تفرض قيوداً على الضغوط التي يمكن أن يمارسها اي طرف دولي على طرف آخر، فاذا ما حاولت الولاياتالمتحدة ان تمارس ضغطا اقتصادياً على النمور الاسيوية فسرعان ما تمتد الاثار السلبية لمثل هذه الضغوط الى الولاياتالمتحدة وحلفائها الكبار، ولعل انهيار الاسواق المالية في شرق وجنوب شرق آسيا، وانهيار قيمة العملات الاسيوية في مواجهة الدولار وامتداد الآثار السلبية لذلك إلى الأسواق المالية الغربية يقدم دليلا موضوعيا على ذلك. مجموعة أخرى من المحددات التي واجهت الولاياتالمتحدة تنبع من سياستها الخارجية تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط، فقد خلفت هذه السياسة قيودا ومحددات معنوية على الأقل تجاه الحركة الأميركية بالنسبة للعراق، الأمر الذي يؤكد مدى تعقد عالم السياسة الخارجية المعاصر. إن هذا الوضع وإن كان يتيح لبعض القوى الدولية حيزاً من المناورة إلا أنه حيز محدود ويجب التحرك في نطاقه بحساب ودقة، وهو ما يؤكده التحرك الصيني والفرنسي والروسي. ويبقى أن نتذكر أن حقائق عالم السياسة هي حقائق نسبية متغيرة وليست مطلقة وأن العبرة في النهاية، وكما يقول ريتشارد نيكسون في كتابه المهم "انتهزوا الفرصة"، بمن يستطيع انتهاز الفرص المتاحة والإمساك بها في الوقت المناسب وتوجيهها بما يتوافق ومصالحه وأهدافه.