في المقاطع المصورة التي نقلتها نشرة الأخبار التلفزيونية في فرنسا من البرلمان حيث دارت، منذ أشهر تقريباً، مناقشة عاصفة بعض الشيء، أمكن للمشاهد أن يرى نواباً فرنسيين يمينيين يلوّحون، وهم جالسون في مقاعدهم، بكتاب كبير الحجم نسبياً. وقد اقتضى الأمر ان يرفع النواب القلائل هؤلاء جذوعهم قليلاً وأن يمدوا نحو الأعلى اليد القابضة على أسفل الكتاب، باذلين على الأرجح بسبب حجم ووزن الكتاب الواقع في حوالى تسعمئة صفحة من القطع الكبير، جهداً يفوق الجهد الخفيف والسابق لرافعي "الكتاب الأحمر" للزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. الكتاب المرفوع في البرلمان الفرنسي على يد نواب قلائل قد لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد، كان هو مدار المناقشة العاصفة التي شهدها البرلمان. والكتاب هذا صدر منذ شهرين تقريباً عن دار "روبير لافون" في باريس في عنوان "كتاب الشيوعية الأسود" وحمل غلافه شريطاً ورقياً أحمر لجذب الانتباه وفيه عبارة احصائية جامعة: 85 مليون قتيل. عن طريق التلويح بالكتاب العتيد الذي تجاوز رقم مبيعاته التسعين ألف نسخة حتى إشعار آخر، كان النواب القلائل يفصحون عن اعتقادهم الجازم بحيازتهم على الأدلة الدامغة التي تفضح وتدين الشيوعية جملة وتفصيلاً. ولئن كان الأمر يتوخى القاء الشبهة على طبيعة التحالف اليساري الحاكم في فرنسا، فإن رئيس الحكومة وزعيم الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان لم يتردد في رد الصاع صاعين. فقال في رده هذا بأن الشيوعيين الفرنسيين أدانوا الستالينية ولو بعد لأي وتأخر، وبأنهم لم يكونوا أبداً حجر عثرة في طريق نمو الحريات وتعزيزها، وبأن حكومته تضم وزراء شيوعيين وبأنه يعتز ويفتخر بذلك. مع أن جوابه لا يخلو من رطانة سجالية، فإن ليونيل جوسبان كان مصيباً في قوله، وعلى غير صعيد. فهو يعلم على الأرجح بأن طريقة التشهير بالشيوعية، على النحو الموصوف أعلاه، لا تحظى بموافقة نواب آخرين من اليمين الفرنسي، خصوصاً نواب الحزب الديغولي "التجمع من أجل الجمهورية"، بل يحرجهم ويثير حفيظتهم. ذلك أن الديغوليين يعلمون بأن حكومة شارل ديغول الأولى ضمت وزراء شيوعيين، ويعلمون كذلك بأن مقاومة الاحتلال الألماني وإرثه شكلت قاسماً مشتركاً واطاراً جامعاً يمكن أن تنضوي فيه تصورات ومواقع وطنية مختلفة ومتعددة، وقد أفصح عدد من النواب الديغوليين عن موقفهم المتحفظ حيال صنيع زملائهم وحلفائهم. الجدل الذي أثاره "كتاب الشيوعية الأسود" لم يقتصر على رجال السياسة بل طاول أوساطاً من المثقفين والباحثين، بما في ذلك مؤرخون شاركوا في إعداد الكتاب نفسه الذي أشرف عليه ووضع مقدمته وخاتمته الباحث والمؤرخ الفرنسي ستيفان كورتوا. فقد أعرب الباحثان نيكولا ويرث وجان - لوي مارغولين اللذان كتابا القسم المتعلق بصنائع الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفياتي سابقاً، أعربا في صحيفة فرنسية كبرى لوموند عن عدم موافقتهما على السياسة الاعلانية والدعاوية التي لابست طريقة اصدار الكتاب، كما اعترضا على مقدمة وخاتمة ستيفان كورتوا اللتين تنزعان الى محاكمة الشيوعية محاكمة ايديولوجية، ولم يكن هذا غرض الكتاب. اتساع رقعة السجال دفعت بأحد الناشطين في إعداد المناظرات في التلفزيون الفرنسي، وهو جان - ماري غافادا، الى تنظيم مناظرة تلفزيونية، في اطار برنامجه المعروف باسم "مسيرة العصر"، حول الموضوع ذاته. وقيض للمشاهدين الكثر، وهي كثرة ألمحت اليها الصحف الفرنسية في اليوم التالي، أن يحضروا مناظرة ضمت شخصيات من مشارب مختلفة، وهي شخصيات تجمع في أفكارها وآرائها مقادير من التمثيل الرمزي لمواقعها الاجتماعية والثقافية ومقادير من التمثيل الفعلي، كما هي الحال مع أمين عام الحزب الشيوعي الفرنسي روبير هو. وهذا الأخير كان، في معنى ما، محط أنظار الغالبية بسبب الدلالة المزدوجة لحضوره والتي تجعله في آن معاً محامي الدفاع عن الفكرة الشيوعية من جهة، والمتلقي لاتهامات تطاول تاريخ حزبه و"شرعية" استمراره الحالية، ولو على وهن وجزال باديين. وخلال المناقشة التي أعقبت عرض تحقيقات مصورة عن فظائع الستالينية وما يناظرها في بلدان أخرى، لم يتردد روبير هو في اطلاق وصف جامع على جملة الأمور التي شاهدها، اذ قال بأنها "وحشية فظيعة"، إلا أنه شدد في الوقت ذاته على ضرورة التمييز بين مبدأ الفكرة الشيوعية ومثالها الصحيحين وبين أشكال التعسف والاعتباط التي لابست تطبيقات المبدأ في غير بلد ومنطقة وتجربة. قد يكون التعلل بهذا النوع من التمييز بين صفاء الجوهر والأصل وبين دنس التطبيق المشوه، معزوفة قدمة يلجأ اليها السياسيون الشيوعيون وغيرهم كلما ضاقت بهم سبل المناقشة النقدية. ويدخل في هذا الباب أيضاً اللجوء الى التهويل ورمي الشبهات على نوايا الانتقاد ومآله النهائي. وقد فعل روبيرهو شيئاً من ذلك حين أخرج من أوراقه العدد الأخير من الصحيفة - النشرة التي يصدرها حزب اليمين المتطرف الجبهة الوطنية والذي يدل بالبنان، على غلاف صفحته الأولى وبالحروف الكبيرة، على "هوية" أعداء فرنسا وهم الشيوعيون واليهود والمهاجرون الأجانب. أي ان انتقاد الشيوعية وحزبها الفرنسي يخدمان في النهاية اليمين المتطرف، بحسب معزوفة شائعة هي الأخرى. احتج كاتب وصحافي ليبرالي فرنسي على طريقة روبيرهو في دفع الانتقادات باعتبارها تفصح عن عقلية ستالينية لا يبدو أن الأمين العام قد تخلص منها بالرغم من وصفه للستالينية بالفظاعة الوحشية. وعندما سئل المغني الفرنسي جان فيرا، الذائع الصين في الستينات والسبعينات، عن رأيه، قال بنبرة يشوبها الانفعال والتأثر بأنه عندما كان صبياً في الحرب الثانية وبدأ اضطهاد اليهود في ظل حكومة فيشي، لم يجد ملاذاً وأرض احتماء، له ولأسرته، إلا عند الشيوعيين الفرنسيين الناشطين في المقاومة ضد الاحتلال الألماني النازي. ومع أن فيرا لا يعتبر عضواً في الحزب الشيوعي بل "رفيق درب"، بحسب توصيف ينطبق عليه وعلى عدد من الفنانين والمثقفين كجان بول سارتر مثلاً، فإنه أعرب في حديثه عن اعتراضه على عدد من مواقف الحزب بدون أن يتخلى عن وفائه للأمور الجوهرية. ولئن كان المغني الفرنسي الملتزم يعلم بأنه مؤهل للتعبير بدون مواربة عن آراء وأفكار تلفّها دفقات من المشاعر والانفعالات، فإنه، أي جان فيرا، لم يتردد في القول بأن الذين سعوا حثيثاً الى اضطهاده هو وأسرته والعديد من البشر المنسوبين رغماً عنهم الى هويات عرقية أو دينية أو "ثقافية" لا تستحق الوجود، كانوا من الفرنسيين الاقحاح أو الزاعمين القحة. والراجح أن المغني كان، بعبارته هذه، يغمز من قناة فرنسيين يتأنقون اليوم في أطراح الشيوعية ونبذها في أصلها وفصلها، زاعمين لأنفسهم ولبلدهم هوية تنضح بطهارة وصفاء أصليين وثابتين ولا يعكر صفوها إلا إقبال عدد من الفرنسيين على اعتناق الفكرة الشيوعية والانتساب الى حزبها الفرنسي، وإقبال عدد آخر على الاذعان لأوامر النازية وأفكارها. وقال المغني الفرنسي الملتزم بأنه من السهل كذلك وضع كتاب يكون عنوانه "كتاب الرأسمالية الأسود"، وبأنه يستطيع في هذا الصدد على الفور تقديم أرقام جامعة ومخيفة هي الأخرى، من ذلك مثلاً المئتي مليون طفل وقاصر المرميين عالمياً في سوق العمل بطريقة لاانسانية وملايين الموتى جوعاً ومرضاً وسوء تغذية. ثمة بالتأكيد فصول كثيرة وسوداء يحفل بها تاريخ الرأسمالية ولم يتحدث عنها المغني جان فيرا لضيق المجال، وهي فصول أشار الى بعضها كاتب في صحيفة "لوموند" في اليوم التالي على المناظرة التلفزيونية. من ذلك فظائع الحروب الاستعمارية العديدة والمقتلة الرهيبة التي حصدت الملايين في الحرب الأولى وهي حرب محض رأسمالية. غير أن المسألة الكبيرة تظل تتعلق بمدى جواز اقامة التماثل والتناظر والمقارنة بين النازية والشيوعية بوصفهما نظمتين تشتركان في صفة التوتاليتارية. وقد قيل شيء من هذا لستيفان كورتوا، المشرف على كتاب الشيوعية الأسود، فأجاب بأنه لم يقل في مقدمته للكتاب بأنهما، أي النازية والشيوعية، متماثلتان، بل "بأنهما قابلان للمقارنة"، وأضاف رداً على شبهة أخرى بأنه لم يفعل سوى أداء دوره كمؤرخ يلتفت الى الوقائع اولا. وفي كلامه قدر كبير من التحذلق، فهو يعلم بأن كل عمل تاريخي، بما في ذلك التاريخ التقليدي الدائر على جمع وترتيب "أخبار" الدول والملوك والحروب، يتضمن مقداراً معيناً من الصياغة المفهومية الجامعة، بحسب ما رأى مؤرخ معروف كان سبّاقاً في تصفية الحسابات مع الفكرة الشيوعية، وهو فرنسوا فوريه. من هذا العرض السريع والمبتسر لبعض ملامح المناظرة الدائرة حول الفكرة الشيوعية، يمكننا أن نخرج ونسجل عدة ملاحظات. أولى هذه الملاحظات تتعلق، بطبيعة الحال، بتعاظم المنحى الدعاوي والاعلاني الزاعم للجذرية في نقد ونقض ودحض الشيوعية برمتها. فتعاظم المنحى المذكور من شأنه أن يرخي العنان لأهواء وجموحات شتى يختلط فيها الغث والسمين، وثمة مؤشرات تدل بالفعل على خروج العمل الدعاوي عن مداره الشرعي المعهود، القائم على الرأي والتعليق الصحافيين، ونزوعه الى التمدد داخل حقل البحث التاريخي والسوسيولوجي، كما يظهر من السياسة الاعلانية التي رافقت اصدار ونشر "كتاب الشيوعية الأسود" في فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر. وهذا التمدد "المؤدلج" هو الذي بات يجيز، في اغلب الظن، اندفاعة صنف من ناقدي الفكرة الشيوعية الى تذويب الفوارق بين الماركسية وبين النازية ووضعهما في سلّة واحدة تحمل صفة جامعة هي الكلاّنية او التوتاليتارية. بل يُخشى ان يؤدّي الانتشار الاعلامي السهل والرخيص لمفهوم التوتاليتارية وإطلاقه كيفما اتفق، الى إفقار المضمون الحقيقي لهذا المفهوم، بحسب ملاحظة ذكية لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وكما حصل بالضبط مع الانتشار التحريضي والدعاوي لمفاهيم من طراز الحرية والاشتراكية والامبريالية والثورة والديموقراطية... الخ. والمتأنقون اليوم في نقض الشيوعية يتصرّفون كما لو ان البقرة وقعت وهي فعلاً وقعت ولم يعد أمامهم سوى فتح المزاد للسلاّخين من كل حدب وصوب، هواة ومحترفين. ولا يعود امراً ذا بال، في عرف هؤلاء، ان تكون البقرة هذه كانت الأشد في مناطحة الثور النازي الهائج. فهم يعلمون ان الحديد لا يفلّه الا الحديد ولا يبقى عليهم، بعد ان يفلّ الحديد الأول الشيوعي الحديد الثاني النازي والفاشي، سوى إثبات استوائهما في صفة الحديدية زاعمين لأنفسهم جمالية معدنية اخرى. ولا يعود مهماً، في عرف المتأنقين هؤلاء، ان يكون نقد الماركسية وترجمتها في نظم بيروقراطية متعسفة جاء اصلاً من صفوف الماركسيين انفسهم، خصوصاً في اوروبا، بينما يصعب، بالاحرى يستحيل العثور على ظاهرة من هذا النوع لدى دوائر النازية وعباقرتها. ولا يعود مهماً، البحث في "تاريخية" الدعوة الماركسية نفسها وتحدّرها من الثورة الفرنسية ومشتقاتها ونظيراتها، فهذه الامور متروكة للنسابين المرشحين اكثر فأكثر الى التهميش ميشال فوكو مثلاً. ولا يعود مهماً البحث في وجوه الصلات التي انعقدت بين الماركسية وبين ثقافات وعقليات محلية تضرب بجذورها في أنسجة اجتماعية مضطربة. هل فظائع "الخمير الحمر" مثلاً تتماثل معنى ودلالة مع "غولاغ" ستالين وفظائع التصنيع البلشفي الحارق للمراحل، كما يقال، او مع مقتلات ذات طابع مناطقي وقبلي وعائلي في بلدان وأنظمة اخرى تصدع بالشيوعية وتشهرها كما يشهر السيف ايديولوجية رسمية؟ هل الشيوعية الأوروبية مثلاً هي مجرّد نسخة "مجغرفة" من جغرافيا لشيوعية اصلية مستنسخة كذلك في فضاءات جغرافية اخرى؟ هل الشروط التاريخية والثقافية لظهور وانتشار الفكرة في بلد بعينه لا تلعب اي دور في طرائق تعهد الفكرة المذكورة وموضعتها في نسيج مجتمعها وتاريخه بالذات. هذه الاسئلة هي غيض من فيض اسئلة كثيرة من شأنها ان تمنح موضوع البحث النقدي، بعض القوام التاريخي والسوسيولوجي بدلاً من العودة المتضابية الى المعزوفة اللاهوتية والطهرانية بعض الشيء التي ترد الوقائع مباشرة الى اصل ونواة عقيديين وتحذف كافة التوسطات السوسيولوجية والثقافية التي هي بالضبط مدار التاريخية. وكما هي الحال مع بعض وجوه الانتقاد "الجذري" للاسلام السياسي، وأحياناً الاسلام المجرّد، فإن تساؤلاتنا لا تقصد الحديث الممجوج عن "ماركسيات" او "شيوعيات" او "اسلامات" جمع اسلام اذا جاز ذلك مختلفة. بل ترمي هذه الاسئلة الى الحض على مقاربة موضوعها عبر تثبيت معايير للبحث من شأنها ان تقود الى فهم وتعقل الظواهر في ازمنتها وأمكنتها وشروط حصولها وتعاظمها او ذبولها وتراجعها. ومعنى هذا ان "أبلسة" و"شيطنة" الفكرة الشيوعية وغيرها يقلّل من حظوظ البحث النقدي الرصين في جملة دلالاتها. ولئن كان الامر اشبه بعملية قلب للدعاوة الشيوعية نفسها فإنه يصير من الجائز وصف المتأنقين في دحض الشيوعية اليوم بأنهم دعاة "توتاليتارية ليبرالية" والعبارة استخدمها عالم اجتماع فرنسي قد يكون بيار بورديو. وقد أقسم بعض المتأنقين هؤلاء، على ما يبدو، على مطاردة فلول وبقايا الشيوعية وملاحقة ظلالها المتهالكة، حاملين معهم مقادير لا بأس بها من الشماتة والتشفي والثأر وأهواء التفتيش نسبة الى محاكم التفتيش. أي انهم يحيون ويستعيدون، عن علم أو عن غير علم، ذاك النوع المقيت وأسلوبه الممجوج في القضاء على رائحة الشيوعية وهمساتها: المكارثية. والمكارثيون الجدد النازعون الى إحلال الليبرالية في حلّة الامبراطورية العالمية المخلّصة والمتأحّدة، يسعون حثيثاً الى تجويف جملة الدلالات المتصلة بنشأة الفكرة الشيوعية وانتشارها ومن ثم انهيارها، من خلال نقلهم المناقشة النقدية من مدار البحث والتقصي والتعقل الفعليين الى مدار التشهير والادانة ومحاكمة النوايا ولو بطريقة تكاد تكون اصولية. وهم يفعلون ذلك، وهنا ملاحظة اخرى نسجّلها، متعلّلين بالتمييز الأكبر الذي ينفخون فيه تمثيلاتهم عن التعارض المطلق بين ليبراليتهم وبين التوتاليتارية الشيوعية، ونعني بذلك التمييز بين "القتل بالجملة" و"القتل بالمفرّق"، حتى وإن كان "المفرّق" هذا يحسب احياناً بالمئات والآلاف وربّما الملايين. ومع ان التمييز هذا فيه شية من الحق وجائز بطبيعة الحال، فإن المتأنّقين الذين نتحدث عنهم لا يستخدمونه من اجل تعميق وتحصين انسانويتهم المزعومة كي تشتمل على آراء وأفكار تعترض على اشكال الظلم الاجتماعي والسياسي والرمزي وتجعل من العدالة قيمة ثقافية مشتغلة. بل نراهم لا يتورعون عن إعلاء شأن "القتل بالمفرّق" وتسويغه "وتطبيعه" باعتباره فضيلة من أرقى الفضائل وانه جدير بأن تترنّح له الاعطاف طرباً، اي ان الامر الملفت للنظر لا يتعلق، هاهنا، بوقوع بقرة الشيوعية، لا ردّها الله، بل باستفحال ظاهرة المتأنقين في سلخها بعد ان استيقظت فيهم نوازع وشهوات تمثل لهم الشيوعية المعبودة سابقاً في صورة وجبة طوطمية ممتازة. وما دام هؤلاء يزعمون قوة البصر وحديده ولو على حساب البصيرة، فإنه من المناسب ربما ان يقال لهم ما قاله الرجل القروي لابنه، الفاقد بصره في الثالثة من عمره والذي سخر اخوته من تعثره اثناء تناول الطعام، "ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بني"، بحسب ما روى طه حسين في كتاب "الأيام".