في غمرة انكفاء الطموحات الكلية الكبرى، وخفوت صوت البلاغة السياسية وتواضعه، وانهيار الاحلام القومية، تراجعت اشواق العربي بالمشاريع الكبرى، وانطفأت حماسته، وصار الى الاحباط والقنوط اقرب وأدنى. ولأن المرء يسند قلق الروح الداهم بالاحلام، ولأن الاخيرة ذهبت الى الارشيف مع إرث الهزيمة، غدا من الضروري ترويض النفس على احلام تتناسب واحداثيات المرحلة، بحسب ما يقول السياسيون ومنظّرو الاستراتيجيا، وصار على الحالمين، كي لا ترتطم رؤوسهم بالجدران الصلدة، ان يقلّموا اظافر احلامهم، ويدجّنوها، ويطردوا من حظيرتها كل ما هو غريب وشاذ. لكن الاستسلام ورفع الرايات البيض والركون الى اجترار خطاب الماضي بكل محمولاته وتفرعاته، لم يُصب نفراً غير قليل ممن صدّعت الهزائم أرواحهم، فغدوا لائبين يجوسون ثقوب الحياة بحثاً عما يسند قلق الداخل الموّار بالأسئلة والمدجج بعلائم الاستفهام، وتواضعوا - في نهاية المطاف - على الانتساب الى الاحلام الصغيرة والانتماء الى بهجاتها المبتسرة. احلام صغيرة سرعان ما تذوي مُفسحة المجال لسيل الاحباط والكآبة كي يغمر الجسد الخراب والنفس الظمأى لكِسرة طمأنينة... احلام يجسّدها العابر والطارئ والهارب: جلسة بلا موعد مع اصدقاء يحنون برفق على أهداب بعضهم، ويضيئون في الارواح قناديل من الفرح المسبي الضنين، خبر يحمله لك المذياع او التلفاز او تطالعك به مطبوعة تشعر معه ان ثمة شيئاً في هذا الكون يصغي لأشواقك السرية، امرأة ترشُّ عليك بهاءها وتداهمك بغوايتها الاستثنائية تاركة عطرها الشفيف فوق اصابعك، أو قرب ياقة القميص... اطراء من آخرين على فعل محمود اقترفته. تلك الاحلام الصغيرة التي تعصم الكائن من الوقوع في براثن العبث واللاجدوى. احلام يأتي بها اللاتوقع، لأن التوقعات غالباً ما تصيب المرء بالغثيان، فعليه حتى يبرأ من آفة التوقعات المجهضة ان يتمثّل قول ارسطو: "محظوظون اولئك الذين لا يتوقعون ايما شيء، لأنهم بمنأى عن الشعور بالاحباط". ألا تتوقع يعني الا تصادر على ينابيع الصدفة والا تطمرها بتراب الوقائع التقليدية المتوخاة، وفي اللاتوقع دهشة مكتنزة وفتنة تراود الزمن وتشق عصاه بحكمة المفارقة. وفي المفارقة ومنها تستيقظ الاحلام، وبها تنمو. هكذا تجترح النفس عزاءها كي تقوى على مقاومة المستحيل والانتصار عليه، وهكذا يستعيد الظل سطوته، ويتبختر الهامش بخيلاء. وليس من قبيل الصدفة او البلاهة ان يُقال لمن ما فتئ يواصل لوك العبارات الحماسية الكبرى المعطوفة على احلام شمولية كالوحدة والحرية والديموقراطية والانتصار على الامبريالية وازهاق روح المشروع التوسعي الصهيوني وغيرها، بأنه ينتمي الى الماضي وبأنه غير واقعي، او انه لا يزال سقيماً بالاحلام الكبرى، وهو قول لا يخلو من وجاهة الاطلاق، اذا كان يُراد منه التدليل على صعوبة انجاز هذه الاشواق المطلبية العظمى عبر انتظار معجزة خارجية او الرهان على قائد او فرد مهما تسلح بالعزم والبطش والمقدرة. وبعيداً عن الميتافيزيقا فإن من غير المستبعد اجتراح معجزة تجعل الاحلام الكبرى في متناول النفوس. ولكن ذلك ليس من سهل الامور وميسورها، فهو يحتاج الى روافع عملاقة وتغييرات جوهرية تطال الاساس البنيوي لنظامنا السياسي والاجتماعي والثقافي... وفي انتظار مواءمة اللحظة التاريخية للتغيير المنشود، لا نملك سوى الحَدْب على احلامنا الصغيرة ورعايتها وسقايتها وريّها بماء العيون!