بحلول 20 كانون الثاني يناير 1998، تكون المؤسسة النيابية لصيغة الحكم الذاتي الفلسطيني المعروفة ب "المجلس التشريعي"، أكملت عامها الثاني. وبالنسبة للذين يشغلهم تقييم هذه التجربة واستلهام عبرتها، قد يتأكد، ضمن أشياء كثيرة، اتساع المسافة بين المأمول والواقع، بين الطموحات والمخرجات الحقيقية. ولعل بعضهم يوقن بأن العيوب الخلقية في نشأة المجلس صبغت ممارساته وتغلبت على محاولات الإصلاح اللاحقة، رغماً عن النيات الطيبة. مؤدى هذا الفهم، أن الوثائق المنشئة للمؤسسة، لم تقدم إلا سقفاً منخفضاً طوال حركتها، بما يتعارض وإمكان أدائها على الصعيدين الأهم: وظيفة الدفع بالتحول الديموقراطي في العملية السياسية داخلياً، وتدعيم المفاوض الوطني خارجياً. وكان المتحمسون للتجربة على دراية بهذه الخاصة. لكنهم، للحقيقة، تصوروا أن خوض الغمار والسباحة فيها، سَيُجب النصوص وقيودها بقوة الدفع الذاتي المتولدة عن الممارسة. غير أن ما حدث أحبط هذا التصور. إذ لم تستطع المؤسسة تجاوز المسموح لها نصاً، بل لعلها تحركت في هامش أضيق من ذلك، كما تأثرت بالسياق السلبي العام المواكب لمسيرتها فيما خص عملية التسوية الفلسطينية. وما هو أدعى للدهشة، انقلاب فريق ممن دعوا للإقبال على التجربة ضدها حتى أنهم ساهموا أنفسهم في الانصياع للنصوص والاحتماء بها، وهم يسعون إلى الاستقواء على دور المجلس والتقليل من شأنه. وقع المجلس بين نصوص صارمة تأبى مجرد وصفة صرحة ب "التشريعي"، وبين قيادة استمرأت التقليد السلطوي، ولم تستطع التكيف مع التعبير الديموقراطي الجديد. وبينما يصح توقع سندان الوثائق المنشئة والنصوص، بحكم ورودها تحت وطأة شروط التفاوض مع إسرائيل، فإنه يصعب تبرير غلو مطرقة القيادة الفلسطينية في التقيد باتجاه يفترض أنها أضمرت مقاومته لا تشجيعه. والمقصود هنا هو اتجاه التطبيق الحرفي للتعبيرات الغامضة الفضفاضة بما يوافق الرؤية الإسرائيلية، بينما عوّل الكثيرون على فرصة تفسيرها بما يخدم الموقف الفلسطيني. قيل مثلاً، إن وجود ممثلين منتجين عن الشعب الفلسطيني، سوف يمكن المجلس من اسماع الكلمة الفلسطينية لكل من يعنيه الأمر، ويقدم مظهراً للأهلية الوطنية في الاستقلال وتقرير المصير، وذلك بغض النظر عن تضييق صلاحيات المجلس في وثائق أوسلو. وعليه، استشرف البعض، إمكان أن يتخذ المفاوض الفلسطيني من مجلسه ظهيراً شعبياً معترف بأحقيته التمثيلية، وسفه هؤلاء موقف مقاطعي الانتخابات العامة. وذهب نفر منهم إلى أن المقاطعة تحرم المفاوض من مزيد من القوى السياسية المناصرة لحركة المفاوض، وتؤدي في الوقت عينه، إلى حرمان المجتمع الفلسطيني من الاصطفاف السياسي الحضاري المقبول أمام القوى الدولية المتغلغلة في مسار التسوية. هذه الرؤية فاتها، أن تحقيق اختراقات مجدية بالاستناد إلى الأهلية التمثيلية لأعمال المجلس وطروحاته، مرهون بالتضافر القوي بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية التفاوضية، ولا سيما تجاوب الثانية مع الأولى. الأمر الذي لم يبرز أبداً خلال العامين الماضيين. وفي عرض شامل للعلاقة بين المؤسستين، مع عناية خاصة بموقف رئيس السلطة التنفيذية من المجلس، ردد رئيس المجلس أحمد قريع العبارات الدالة الآتية: "السلطة التنفيذية تبالغ في دورها"، "تعلمنا من إسرائيل استلاب حق الآخرين وهذه كارثة السلطة"، "هناك محاولات مستمرة من جانب السلطة التنفيذية لتحجيم دور المجلس تشريعياً ورقابياً"، "السلطة تعتمد أسلوب خنق المجلس والتغطية على أخباره، نحن سلطة بلا قوانين". وثمة ما هو أكثر تعبيراً عن خيبة الأمل في هذه العلاقة، يمكن استقاؤها من أفواه أعضاء المجلس، الممتعضين منهم أو الذين بلغ بهم الغضب حد الترجل والاستقالة وعلى رأسهم حيدر عبد الشافي. فإذا أخذنا هذه الإشارات في الاعتبار، وعطفنا عليها عشرات التوصيات التي أعلنها المجلس، والقوانين التي أقرها بقراءات أولى وثانية وثالثة، ولم تنفذ أو تعتمد من السلطة التنفيذية، أدركنا أي حصاد هزيل أسفرت عنه التجربة. وفي الحقيقة، أوشكت فترة عمل المجلس، المحددة بالمرحلة الانتقالية، على الأفول، من دون أن يصدر القانون الأساسي للسلطة، ولا صدرت قوانين أخرى لا علاقة مباشرة لها بموقف إسرائيل، لأنها تندرج تحت الاختصاصات المقررة للمجلس، كقانوني الخدمة المدنية واستقلال القضاء. ومن المفارقات، أن رئاسة السلطة تعزو عدم تصديقها على بعض اصدارات المجلس، كالقانون الأساسي، إلى وقوع هذه الأمور ضمن اختصاصات منظمة التحرير. مع أن ميثاق المنظمة، أصبح وجوده موضع شك منذ إقرار تعديله، الأقرب إلى إلغائه، من جانب المجلس الوطني نيسان ابريل 1996، فكأن السلطة والمنظمة سواء بسواء في قضية الافتقاد لدستور محدد لكل منهما، أو لهما معاً. ذهبت السلطة التنفيذية بعيداً في تهميشها للمجلس، دوراً ووظيفة وأفقاً وحركة، فما الذي ينتظر من الجانب الإسرائيلي؟ المجلس بجلالة تمثيليته وقدره الشعبي، ينتظر قرارات بحركة الأعضاء، ومن ثم فرص الانعقاد، من ضابط إسرائيلي أو آخر، وفي ذلك إهانة بالغة لإرادة المجلس المستمدة من الإرادة الشعبية في الضفة وغزة. من قال إن إسرائيل - والقوى الدولية ذات الصلة بمسار التسوية - بوسعها احترام نداءات مجلس، ثبت إغفالها مع سبق الإصرار على الصعيد الفلسطيني الداخلي؟ وعموماً، تتعامل إسرائيل مع أعضاء المجلس بصفتهم الفردية، ولا حصانة لهم من إرادة الناخبين، التي يفترض أن تجيز لهم حرية الحركة والتعبير. إذا كان المجلس الوطني للمنظمة مغيب أو لنقل معلق بالخارج والداخل، والمجلس التشريعي مهمش بالداخل، فمن أين يتأتى للسلطة ومفاوضها هامش مناورة، كالذي يتعامل به ويتوكأ عليه المفاوض الإسرائيلي؟ أفلا يثير غيرة السلطة الفلسطينية ويدفعها للمحاكاة، ما يعتمل على الساحة الإسرائيلية، حين تتخذ المماحكات الحزبية داخل المؤسسة التشريعية الكنيست وسيلة لتوسيع وتضييق معطيات التفاوض، وفق المصلحة الإسرائيلية العليا بحسب تفسيرها الصهيوني الظالم طبعاً؟ حري بالسلطة أن تفعل الشيء نفسه، بأن تفسح هامش حركة أوسع للمجلس في الداخل، إن لم يكن بوسعها إعادة الاعتبار لمواثيق المجلس الوطني للمنظمة. والواقع، أن العام الثاني للمجلس، أوشك أن يشهد حركة تصحيحية مبشرة، حين تحرك أعضاء كثيرون، وطالبوا بإحكام الرقابة على أجهزة الأمن، وضرورة احترام توصيات مجلسهم وقراراته، وأشاروا بأصابع الاتهام للمرتشين والمهتمين في ذممهم المالية، وانذروا بحجب الثقة على وزارة الحكم الذاتي بالكامل تقريباً، وأوصوا بتعليق المفاوضات. هذه معالم للصحوة السياسية، يفترض أن لا يتم إهدارها، كفرصة لتدعيم بيت السلطة الفلسطينية في مرحلة حرجة من حياة المجتمع الفلسطيني داخلياً وخارجياً تفاوضياً. وعلى رغم الخبرة السلبية لسوابق تعامل السلطة التنفيذية مع مثل هذه الفرصة، إلا أن علينا التحلي بخاصة الحلم وأن لا نيأس من حدوث معجزة تغير مسار القول المأثور "الطبع يغلب التطبع".