على مقربة من مسجد الأزهر الشريف، وبين آثار القاهرة الإسلامية العتيقة، تطل علينا "وكالة الغوري" التي تُنسب إلى مشيدها السلطان المملوكي قنصوه الغوري، شاهدة على مجد غابر وتاريخ حافل. في ذلك العصر كانت مصر تشهد إزدهاراً كبيراً ورواجاً اقتصادياً واسعاً، فقد كانت البلاد ملتقى الطرق التجارية للعالم القديم، وكانت بمثابة المحطة الرئيسية التي تمر بها تجارة الشرق والغرب. وكان التجار من مختلف الجنسيات يرتادون القاهرة، يبيعون ويشترون ما تجود به البلاد من غلال وأقمشة وعطور وتوابل. ووكالة الغوري تمثل قمة العمارة الإسلامية التجارية، وتعتبر نموذجاً فريداً احتذته الوكالات التجارية التي شيدت بعدها مثل وكالة الماوردي ووكالة جمال الدين الذهبي، وغيرهما. وعلى رغم مرور نحو خمسة قرون على إنشاء وكالة الغوري، إلا أنها لا تزال تحتفظ بحالتها الجيدة. تتكون الوكالة من خمسة طوابق تشمل أغلب العناصر المعمارية المعروفة في المنشآت التجارية الإسلامية، مثل الخان والقيسارية والفندق. في الطابق الأول من الوكالة توجد الحواصل أو مخازن البضائع، والحاصل هو مساحة مستطيلة الشكل مسقفة بقبو نصف اسطواني، وله باب يطل على الفناء الداخلي للوكالة. وخلف تلك الحواصل مباشرة توجد الحوانيت التي تعرض البضائع، وأبوابها تطل على الشوارع الخارجية للوكالة. أما الفناء أو الصحن الداخلي، فهو عبارة عن مساحة مكشوفة مربعة الشكل تتوسطها نافورة من الرخام المزخرف بنقوش هندسية ونباتية. والصحن محاط بمجاز دائري يطل عليه ببائكة من العقود المحمولة على دعامات وأعمدة. أما بقية الطوابق فكانت تستخدم كأروقة لسكن التجار، كل رواق يتكون من ثلاثة طوابق متداخلة، يتم الاتصال بينها عن طريق درج داخلي خاص، يتغير موقعه من طابق لآخر. والرواق هو المساحة المحصورة بين صفين من العقود، وكانت الأروقة تقع فوق الحواصل مباشرة. أما مصادر المياه اللازمة للوكالة فكانت تأتي عن طريق الآبار، وكان يلحق في أحد أركانها من الخارج سبيل يقصده ساكنو الوكالة وبقية الناس. ذلك عن الجانب التاريخي لوكالة الغوري ووظيفتها في العصور السابقة، أما حالياً فقد تحولت الوكالة إلى مركز للإبداع الفني بشقيه الحرفي والتشكيلي منذ العام 1960، حتى قام وزير الثقافة المصري آنذاك ثروت عكاشة بتخصيص المبنى ليكون مقراً لمراكز الإبداع التابعة للمركز القومي للفنون التشكيلية. وعن الوظائف الإبداعية التي تؤديها وكالة الغوري حاليا، يقول الدكتور احمد نوار مدير المركز: "كان السبب في اختيار ذلك المكان كمركز للإبداع طبيعة الوكالة وعمارتها الإسلامية الفريدة التي تلهم الفنان وتوفر له جواً إبداعياً لا يجده في الأماكن الأخرى". ويضيف: "لقد تحولت أروقة الوكالة التي كانت تستخدم قديماً لسكن التجار الأجانب، إلى مراسم للفنانين التشكيليين الذين يمثلون كل الاتجاهات الفنية مثل السريالية والواقعية والتجريدية، بالإضافة إلى فن النحت. ويبلغ عدد تلك المراسم 60 مرسماً يشغلها حالياً صفوة من كبار الفنانين التشكيليين، فضلاً عن طلاب كليات الفنون الجميلة والتشكيلية". وماذا عن الجانب الحرفي للوكالة؟ يجيب نوار: "مهمتنا حماية الحرف الإسلامية التقليدية من الانقراض، وذلك عن طريق مشروع طموح يقوم بتنفيذه صفوة من اساتذة تلك الفنون في مصر. ويتمثل المشروع في مجموعة من الورش الفنية لتدريب الصبية وتخريج أجيال من الفنيين المهرة في الحرف التقليدية والتراثية". ويحوي المركز أقساماً عدة مثل: قسم النقش على النحاس، وقسم زخرفة الخيام، وقسم التطعيم بالصدف، وقسم الخرط العربي الارابيسك، وقسم المصاغ الشعبي، وقسم الزجاج المعشق. ويؤكد نوار أن مركز وكالة الغوري لتراث الفنون التقليدية نجح في تكوين كوادر مدربة، ومهارات فنية على مستوى عال ومتخصص من الناحية الاكاديمية والإبداعية المعنية، تعمل على زيادة إنتاج تلك الحرف وتطويرها بما يناسب الاحتياجات العصرية، سعياً إلى نشر القيم الجمالية على أوسع نطاق، بإتاحة الفرصة لاقتناء تلك المنتجات والتعايش معها في الحياة اليومية.