تاريخياً كان المسلمون أكثر اهتماماً بالعدل منهم بپ"الديموقراطية" وبسيرة الحاكم أكثر مما بطريقة اختياره. في العصر الحديث وفي اطار البحث في أسباب تأخر المسلمين وسبل تقدمهم برزت بصورة عامة شعبتان من الأبحاث: الأولى تتصل بالدستورية والدستوريين في مرحلة أولى، وبالديموقراطية والديموقراطيين في مرحلة لاحقة. الثانية دارت في العقود الأولى من العصر الحديث، حول علاقة السلطان بمحكوميه فق منطوق الشريعة الاسلامية، وذلك كصدى لما دار من تغييرات عنفية ودستورية طالبت سلطات ملوك أوروبا وأباطرتها، وتطور الأمر في مرحلة لاحقة للبحث في موقف الاسلام والاسلاميين، من أنظمة الحكم الحديثة عموماً ومن قضية الديموقراطية في اختيار الحاكم وتسيير الحكم خصوصاً، وذلك مع تزايد حضور التيارات الاسلامية في العمل السياسي العربي والاسلامي. وفي الحالين نجد ان قضايا الدستورية أو الديموقراطية، وموقف الاسلام أو الاسلاميين منها طرحت على العالم العربي باكراً منذ احتكاكاته الأولى المباشرة مع العالم الغربي، ويمكن رصد بعض محطات الاحتكاك هذه: - تجربة بونابرت في تأسيس مجلس تمثيلي ضم ازهريين إبان حملته على مصر. - التنظيمات التي أطلقها السلطان محمود الثاني وخليفتاه عبدالمجيد وعبدالعزيز. وقد عالجت هذه الاصلاحات، بصورة أساسية، قضايا علاقة المسلمين بالأقليات غير المسلمة في السلطنة تحت اسم نظام الملل والطوائف... الخ. فكان هناك إلغاء الجيش الانكشاري وخط كلخانة 1839 الذي عالج موضوعات أقرب الى حقوق الانسان ثم الخط الهمايوني 1856 الخاص بالملل غير الاسلامية. - التجربة الدستورية مع مدحت باشا والسلطات عبدالحميد الثاني التي انتجت مجلس المبعوثان. دستور 1876. - ثم هناك الصراع بين المشروطة والمستبدة الذي كانت ايران ميدانه السياسي، والذي امتدت أبعاده الفقهية والنظرية الى النجف في العراق حيث انقسمت المرجعية الاسلامية الشيعية بين مناصر لهذه ومعارض لتلك. وهكذا نجد باكراً رسالة تنزيه الملة للمرجع المعروف الميرزا محمد حسين النائيني. بعد الحرب الأولى وفي ظل النفوذ الأوروبي الغربي المباشر وغير المباشر، شاعت مصطلحات البرلمانية والاقتراع الحر، وبرزت الاحزاب السياسية، وتعرف العرب على الفصل الحديث بين السلطات وعلى دور السلطة الرابعة. وهنا نجد ان رجال الدين المسلمين اتخذوا مواقف بارزة لا تعترض على عملية الاقتراع نفسها بل على وقوع هذه العملية تحت اشراف قوى الاستعمار آنذاك. هكذا كان موقف علماء النجف الذين دعوا الى مقاطعة أول انتخابات اجريت في العراق، والموقف المشابه نجده عند جمعية العلماء في الجزائر. وبصورة عامة يمكن القول انه قبل أواسط خمسينات هذا القرن شارك الاسلاميون في النشاط البرلماني، وبعضهم دخل البرلمان مثل آية الله الكاشاني في ايران إبان تجربة مصدق، وبعضهم حاول دخول المعركة الانتخابية مثل الإمام حسن البنا في مصر. وبين أواسط الخمسينات وأواسط الثمانينات بدا وكأن المنطقة العربية طلقت البرلمانية وتهمش الطرح الليبرالي والديموقراطي أمام هجوم مصطلحات "ثورية" فرضت قيماً انقلابية في العمل السياسي وقللت من شأن التعددية ومكانة الاقليات، وقد عم هذا الانقلاب التيارات الايديولوجية والفكرة المختلفة وشارك في ذلك الاسلاميون وغيرهم من الماركسيين والقوميين بل حتى التحديثيون أنفسهم. وكان اليساريون والوطنيون عموماً يعانون حرجاً شديداً في التصرف إزاء بعض التجارب البرلمانية التي استمرت رغم انقلابية الخمسينات، فكانت هذه التيارات تتخذ مواقف تتفاوت بين مقاطعة الانتخابات والمشاركة المتحفظة، وهي لا تعتقد بالبرلمانية مدخلاً للتغيير وآلية للحكم، بل كانت ترى في عملية الاقتراع مجرد هامش لتنشيط خطابها السياسي ضد النظام الحاكم. هكذا تصرف يساريو لبنان، وكذلك في الكويت والبحرين والاردن والمغرب... الخ. وفي هذه المرحلة لم يكن الإسلاميون أقل تساهلاً ازاء هذا "الكفر البواح" الذي اسمه الديموقراطية والانتخابات. ولا شك ان الليبرالية كانت، وما زالت، بحدود بعيدة تهمة في مجتمعاتنا ونوعاً من الشتيمة وسبيلاً للعزل والاقصاء. أما الديموقراطية فهي، إن وردت، كان لا بد من أن تُشفع بعبارة أخرى من نوع مركزية وشعبية، ومؤخراً بوصفها آلية وليست كنظام... الخ. والاهتمام الواسع الذي تلقاه قضية الديموقراطية في العالم العربي اليوم مرتبط إلى حد كبير بالمتغيرات التي حصلت على الصعيد العالمي وسقوط الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي. فهذا التحول العالمي تصادف وقوعه مع صعود الإسلاميين كتيار يكاد يحتل كامل المشهد السياسي في المنطقة، من جهة التحرك المعارض أو الشعبي بعد انحسار المد اليساري بوجهيه القومي والماركسي. والحضور السياسي للإسلاميين في هذه المرحلة يضعهم في بعض الدول العربية في موقع البديل، ليس للحكم القائم، بل للتيارات التي كانت تلعب تقليدياً دور المعارضة. واحتمال وصول الإسلاميين إلى الحكم في هذا البلد العربي أم ذاك، حتى عن طريق البرلمان، اثار في وجههم عاصفة من المواجهات تدور كلها حول موقفهم من الديموقراطية. ولا بد من التنويه بأن الكلام الكثير عن الديموقراطية لا يعني أنها مطروحة على جدول الأعمال سواء في برنامج الحكومات أم برنامج المعارضات، بما فيها الإسلاميون. وعلى الأغلب الأعم فإن الديموقراطية تتحول إلى وسيلة للصراع السياسي والفكري، دون ان تكون هدفاً حقيقياً لأطراف الصراع. وقد حصل الأمر نفسه مع طروحات أخرى مثل الوحدة والاشتراكية، وبصورة أجلى وأوضح حصل ذلك مع شعار تحرير فلسطين. مع هذا، لا بد من الاشارة إلى بعض العوامل التي تجهل للتركيز على موقف الإسلاميين من الديموقراطية أبعاداً، ذات خصوصية في هذه المرحلة، ومثل هذه الخصوصية تتأتى من مصدرين: 1- ما أشرنا إليه من صعود إسلامي راهن ومن متغيرات دولية. 2- النفوذ الواسع للفكر الديني في مجتمعاتنا العربية الإسلامية مع استعادة هذا الفكر لمكانته ودوره في مجتمعات أخرى عريقة في علمانيتها. ولا بد من الاشارة إلى ان استغلال النفوذ الواسع للدين في مجتمعاتنا لم تنفرد به تيارات الحركة الإسلامية، بل أن التيارات الأخرى مارست عند الحاجة مثل هذا الاستغلال ووظفته في صراعاتها، ومن هنا يشوب الضعف مقولة عدم الترخيص لحزب ديني كي لا يتحول الدين إلى سلاح سياسي، فالدين هو في الواقع واحد من الاسلحة المهمة التي تحتويها خزانة الأسلحة الفكرية والايديولوجية المتداولة بكثافة في منطقتنا عموماً. في المقابل تبرز الاشارة إلى أن التخويف من سلاح الديموقراطية لا يقل تداولاً عن التخويف من سلاح الدين. فكلما طرحت مقولة الديموقراطية تنسب إلى الغرب والتغريب كي يتم اهمال اعتمادها آلية أو مبدأ، ومثل هذا التخويف يصدر عن فئات تحديثية كما يصدر عن فئات تقليدية. وربما كان السبيل الأول للحد من المخاوف التي يروّج لها في الساحات السياسية العربية الإسلامية يفرض وقف "الفزعتين" اللتين يطلق عقالهما معاً، أو كلاً على حدة: "الفزعة" من الاسلامية و"الفزعة" من الديموقراطية. فنحن أمام عاملين تفترض حضورهما معاً ضرورات موضوعية كعاملين مهمين في بناء المجتمع العربي الإسلامي الحديث، وإذا كان الاسلام والديموقراطية ضرورتين متلازمتين بهذا المعنى، فإن أياً منهما، أولاً، لن يؤدي دوراً ايجابياً بغياب الآخر، وثانياً، إذا لم يتوصل المجتمع إلى درجة من الوعي والتقدم يبطل الاستغلال الشعاراتي والديماغوجي لكل منهما. وبصورة عامة، فإن الرفض للديموقراطية أمكن وصفه مراراً بأنه موقف "ثوري" يكون مرة ماركسياً ومرة قومياً ومرة إسلامياً. والأسباب نفسها تتكرر عند هذه التيارات في تفسير هذا الرفض. وكذلك الأمر في قبول الديموقراطية، حيث الرفض والقبول لا تحتمهما معطيات دينية حقيقية. والغالب حتى الآن على الموقف العام في بلادنا ومجتمعاتنا أن قبول الديموقراطية مثل رفضها، ينطلق من ظروف آنية واعتبارات وقتية، ولم نصل حتى الآن إلى الموقف الاصيل من الديموقراطية إلا بحدود نخب بين الاسلاميين كما بين غيرهم. هذه العمومية لا تنفي خصوصية ما، تتعلق بموقف الإسلاميين، وهي خصوصية دينية تتعلق بالمقدس في الدين من جهة، والتراث المتراكم منذ قرون. فالنفاذ من داخل هذه الخصوصية إلى موقف أصيل من الديموقراطية، رفضاً وقبولاً، يختلف منهجاً ووسائل، عما هو لدى تيارات أخرى. وستظل مشكلة العلاقة، ليس بين الدين والسياسة كما يطرحه بعض التيارات العلمانية، بل العلاقة بين الدين والحاكم تحكم مثل هذا الموقف. فإذا كان لا يمكن قيام الفصل بين الدين والسياسة، فإنه يمكن قيام فصل وظيفي بين السياسي والديني، بحدود مرجعية الثاني للأول دون مصادرة كل منهما للآخر.