قبل ثلاثة أعوام تقريباً، هاجم ثلاثة أشخاص من المافيا اليابانية ياكوذا المخرج الياباني الكبير إيتامي جوزو داخل كاراج منزله عند عودته إليه ليلاً. وبطعنة من سكين حادة أصابوه بجرح سطحي في مقدمة وجهه. كان هذا درساً أرادت المافيا اليابانية تلقينه لإيتامي لدأبه على فضح أساليبها وكشف خباياها وممارساتها وتأثيراتها السلبية في المجتمع الياباني من خلال أفلامه. حدث هذا بعد اسبوع من بداية عرض فيلم "محامية تواجه المافيا" 1994. ولكن ايتامي لم يستجب للتهديد وواصل مسيرته ضد الفساد في أحدث أعماله "الحارسة الخاصة" 1997، وكانت لهجته في انتقاد المافيا هذه المرة أكثر حدة وتحدياً ما يضفي على حادث مصرعه - فجر الأحد 21 كانون الأول ديسمبر، والذي قيل حتى الآن إنه انتحار - ظلالاً من الشك حول تورط المافيا! وكانت الصحف اليابانية أعلنت في اليوم نفسه عن وفاة المخرج بعد العثور على جثته ملقاة في كاراج إحدى البنايات بمنطقة أزابو في وسط العاصمة طوكيو بعد أن سقط - أو ألقي - من أحد أدوار البناية. وتحدثت الصحف عن عثور رجال البوليس في مكان الحادث على ورقة بخط إيتامي يعترف فيها بانتحاره. وربطت الصحف بين انتحار إيتامي وبين موضوع صحافي كانت مجلة الفضائح اليابانية "فلاش" في طريقها لنشره في اليوم التالي. وعلى حد قول بعض هذه الصحف، كان الموضوع سيعرض لتفاصيل علاقة سرية بين المخرج وفتاة شابة... وربما جاء الانتحار وسيلة ليتخلص إيتامي من هذه الفضيحة خصوصاً انه يتمتع باسم ومكانة محترمين في السينما والمجتمع الياباني على السواء، وأن زوجته هي الممثلة الشهيرة وبطلة جميع أفلامه ورفيقة دربه مياموتو نوبوكو. لكن من جانب آخر تؤكد أصوات أخرى تورط المافيا في مقتله، وهذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة. وربما تكون الحقيقة قد ظهرت عند نشر هذه السطور التي كتبت مباشرة بعد الإعلان عن وفاة المخرج في الصحف اليابانية. منذ عامين ونصف العام كنت التقيت إيتامي جوزو في طوكيو في حوار مطول، نشر جزء منه على هذه الصفحات، وحكى لي فيه عن تعرض المافيا له وقال: "لم يكن في نية هؤلاء أن يقتلوني أو حتى يؤذوني بشدة قدر ما أرادوا تهديدي وتخويفي". ويبدو ان إيتامي، الذي كان من الممكن أن ينتحر بصورة أقل مأسوية وداخل منزله مثلاً، لم يستطع تقييم قوة وتأثير المافيا اليابانية في المجتمع الياباني بدقة. كان إيتامي من أكثر المخرجين اليابانيين شهرة خارج اليابان، خصوصاً في أميركا وأوروبا. فمعظم أفلامه تعرض بنجاح في دور العرض العامة ويكتب عنها في موسوعات الأفلام الأميركية المحترمة، كما توزع أفلامه بكثافة على شرائط الفيديو بعد عرضها سينمائياً. قبل رحيله كان يعد لبعض المشاريع أهمها فيلم أميركي يدور حول سوء الفهم والتخاطب أو التواصل المفقود بين أميركا واليابان من بطولة النجم جاك نيكلسون. وكان سيخرج فيلماً أميركياً، أو على الأصح نسخة أميركية من فيلمه الياباني "مأمورة الضرائب" الذي لاقى نجاحاً كبيراً عند عرضه في أميركا. كما كان يخطط لتصوير فيلم كوميدي في استراليا. كان إيتامي يبرع في تقديم كوميديات اجتماعية ساخرة تطرح قضايا مهمة وملحة. وكان يطمح دائماً لصنع أعمال تناقش ماهية الثقافة اليابانية وترصد سلبيات مجتمعه بصراحة شديدة. بدأ إيتامي حياته الفنية كممثل منذ أن كان في السابعة والعشرين، ولكنه كان يتمنى دائماً أن يتحول من التمثيل إلى الإخراج. وعندما لم يجد من يمول له أول أفلامه قام هو وزوجته مياموتو ببيع كل ما يملكان لانشاء شركة إنتاج أخرج من خلالها أول أعماله "الجنازة" 1983. وبعد نجاح هذا الفيلم توالت أعماله كمخرج ومنتج بنجاح مماثل. ومن الأشياء الطريفة والجديرة بالرصد أن كل تجربة شخصية كان ايتامي يواجهها، أو تجارب خاصة بالمقربين إليه، كانت تدفعه لصنع فيلمه التالي. فعندما توفي والده لم يوجد أي شخص للقيام بإجراءات وطقوس الجنازة المعقدة سواه، ولكنه لم يكن يعرف عن هذه الامور شيئاً. وبعد ان عاش هذه التجربة شعر بالمعاناة التي لا بد أن يخوضها ذلك الشخص الذي لا يعرف شيئاً عن هذه الطقوس، ومن ثم سجلها في فيلمه الذي شهد ردة فعل ايجابية من المشاهدين اليابانيين الذين اعتبروه عملاً تسجيلياً وتعليمياً متكاملاً لطقوس مهمة كانوا يجهلونها. وأثناء تصوير فيلمه الثاني "تانبوبو" 1984 واجه إيتامي إجراءات مريرة لم يتوقعها تتعلق بتحصيل الضرائب عن أرباح فيلمه الأول "الجنازة"، فقرر أن يكون ثالث أفلامه عن الضرائب. فجاء "مأمورة الضرائب" الذي يناقش هذه الإجراءات والعلاقة بين دافعي الضرائب والمسؤولين عن تحصيلها. والمسؤولة هنا امرأة هي الممثلة مياموتو التي تقوم بالإيقاع بأحد الكبار الذين يجيدون التهرب من الضرائب. أما فكرة "محامية تواجه المافيا" فجاءت إليه بعدما أدرك مدى نفوذ المافيا اليابانية وتأثيراتها السلبية في المسار السياسي والديموقراطي في اليابان. وربما كان التهديد الذي تعرض له من قبل المافيا حافزاً قوياً لتقديم أحدث أعماله "الحارسة الخاصة". تميز إيتامي، كمعظم زملاء جيله، بالتحرر والنزعة الانتقادية والثورة على الأنظمة والممارسات الاجتماعية والسياسية الخاطئة. فهو ينتقد النظام الإمبراطوري، وقال في حواره معي إن "اليابان تدّعي بأنها بلد ديموقراطي ولكن الحقيقة عكس ذلك، هذا هو الشكل الخارجي فقط، فالديموقراطية تقوم على ثلاثة أنظمة ذات حقوق مستقلة: الإدارة والقضاء والبرلمان. لكن صانعي القانون في اليابان ليسوا البرلمانيين وإنما هم الإداريون وهذا شيء غريب جداً بالنسبة الى النظام الديموقراطي". في فيلمه "المريض الكبير" 1995 الذي يدور حول الحياة والموت والمرض، بدا إيتامي حزيناً على هؤلاء الذين يموتون في المستشفى. وقال لي أثناء الحوار نفسه إن الدافع وراء صنعه هذا الفيلم كان خليطاً من تجارب بعض المقربين إليه ومن أفكاره الخاصة، إذ أن سنه 61 عاماً حينها جعله أكثر قرباً من الموت. ومن المفارقات القدرية أن يموت هو ميتة أسوأ من الموت في المستشفى... أن يموت على أرض أحد الكاراجات في منتصف الليل! برحيل إيتامي خسرت السينما اليابانية مخرجاً كان يرسم البسمة على الوجوه، وكان يحرص على توعية مواطنيه بما يحدث من سلبيات في مجتمعهم ويتصدى شخصياً لقوى الفساد فيه.