على قاعدة «ذهب المعز وسيفه»، سارت العلاقات بين العقيد معمر القذافي، الذي كان هو الدولة والسلطة في ليبيا طيلة اثنتين وأربعين سنة، وبين جيران ليبيا الذين تجمعهم جغرافيا قارة أفريقيا( شمال وجنوب الصحراء) وتجمع بينهم حقائق أخرى، من بينها أن كلاً منهم أكثر عدداً من حيث السكان من ليبيا الفقيرة سكانياً، وأقل ثراءً من ليبيا الأكثر دخلاً وريعاً بفضل عائدات النفط والغاز. وتلك حقائق موضوعية يضاف اليها أن كل الجيران كانوا يخشون مؤامرات العقيد ودسائسه وتدخلاته في صراعاتهم وشؤونهم الداخلية، وقدراته المخيفة على تأجيج الخلافات وإشعال الحرائق في بيوتهم، ليقوم بدور الإطفائي المزعوم من ناحية، وليبعد النار من ناحية أخرى عن بيته المغتصب من أهله. ذلك توصيفٌ عام لواقع علاقات الديكتاتورالأقدم حكماً والأحدث سقوطاً مع الدول المحيطة بليبيا وبغيرها من التي امتد اليها أخطبوط باب العزيزية في مختلف قارات العالم. لكن واقع العلاقات مع الجزائر وإن كان يرتبط بالمحددات الثلاثة المذكورة آنفاً يتسم بخصوصيات أخرى من بينها تعقيدات وتكوينات الشخصية الجزائرية شعبياً ورسمياً والتي لم يكن القذافي لخوفه منها يتلاعب بها أو يستفزها أو يتطاول عليها علناً، كما فعل مع الدول الأخرى المجاورة. وأرغمه هذا الأمر على اتباع أساليب المراوغة والدس وزرع الألغام الموقوتة تحت سجاد البيت الجزائري لتنفجر بعد حين، عندما يكون قد ابتعد وأخفت الرياح آثار أقدامه في رمال الصحراء، كما فعل بعد رحيل هواري بو مدين الزعيم القوي الذي كان القذافي يخافه ويتودد اليه. وما أن مات بومدين مسموماً في جريمةٍ لم يكشف النقاب عن أسرارها أبداً وبدت السلطة في الجزائر أرملةً يتداولها العسكر، حتى وجد القذافي الأرض مهيأةً له ليلعب في حديقة جاره الكبير لعبة بلغت أوج تجليها ونجاحها بوصول عبدالعزيز بوتفليقة الى السلطة وهو الذي ظل أسير وفائه للعلاقة الجيدة التي جمعته بالقذافي. لكن هذا الوفاء لم يحل دون استخفاف العقيد بمؤسسات السلطة في الجزائر بشقيها العسكري والاستخباراتي، فزاد من اختراقه لها وزاد من دعمه غير المباشر لتنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي وتواصله معه. وتلك لعبةٌ ليس هناك أقدر من عقيد ليبيا على ممارستها ليس في الجزائر فحسب بل حيثما أمكنه الوصول والتأثير. وكانت السلطات المتعاقبة في الجزائر تدرك قدرات القذافي فكانت تتملقه تارةً وتقاطعه تارةً وتنذره أحياناً لكنها تحسب له ألف حساب. فهو الذي عرف جيداً الأماكن الرخوة في الجسد الجزائري وضغط عليها وتسلل اليها بل وعبرها وتجاوزها منذ عدة سنوات بعقده تحالفات بين قبائل الطوارق في ليبيا وجمهورية مالي قافزاً فوق الجار الكبير جغرافياً وبشرياً واقتصادياً والمتواضع قيادةً وقدرةً، محيطاً اياه بحزامٍ طوارقي ملتهب يضم النيجر ويؤسس لمشروع مملكة الطوارق الذي كان القذافي يعمل من أجله. ولم يبال القذافي في سبيل تحقيق غايته تلك في أن يتنازل عن جزءٍ من الإقليم الليبي ما دام سيضمن دعم وولاء بضعة ملايين من «الرجال الزرق» الأقوياء الأشداء الذين أثبتت حرب الأشهر الستة بين طاغية باب العزيزية والشعب الليبي أنه كان يمدهم بالأموال والغنائم ويعدهم ليزحف بهم على مدن ليبيا وقراها ليطهرها «بيت بيت ودار دار وزنقة زنقة» . ظل القذافي طيلة فترة حكمه يرفض ترسيم الحدود مع الجزائر التي كانت ترغب في عقد اتفاق معه يعطيها شرعية الاستحواذ قانونياً ونهائياً على أراض ليبية غنية بالنفط وضعت الجزائر يدها عليها، على رغم أن ليبيا استقلت رسمياً قبل أن تنال الجزائر استقلالها من الاستعمار الفرنسي. فحدود الأمر الواقع الموروثة من حقبة الاستعمار والممتدة نحو ألف كيلومتر لم تمنح الطمأنينة لسلطة العسكر والاستخبارات وبوتفليقة التي كانت تسعى وتعمل للحصول عليها، بعدما يحسم القذافي، كما توهم هو ومناصروه المحليون والخارجيون، معركته ضد الشعب الليبي فيبقى في السلطة أو يسلمها الى نجله سيف، ويمنح الجزائر الحدود ويعترف باسرائيل ويمنح فنزويلا والأفارقة او معظمهم ونيكاراغوا الهبات والقروض، والصين وروسيا والهند النفط والعقود ويوزع ليبيا وقدراتها بين القوى الكبرى التي اعتقد أنها مهما عاقبته وحاصرته وضربته لن تستغني عنه أبداً. وظل يتوهم ذلك ويحلم به حتى ليلة ذكرى فتح مكة وفجر عروس البحر وتحرير طرابلس الأسيرة على أيدي الثوار، وربما زاد عليها ليلتين انقضتا قبل أن ينقض أولئك الشباب على باب العزيزية ويتحول «الصقر الوحيد» كما كان يحب ان يلقب، الى غرابٍ شريدٍ طريد يبحث عن صديق قريب لا يجده في الجزائر أو غيرها، وعن حليف بعيد لم يجده أيضاً لا في موسكو ولا كاراكاس ولا جوهانسبورغ، ويلجأ الى طوارق حارب بعضهم في حربه الخاسرة من دون أن ينال شيئاً سوى الموت والخذلان. وكان ردهم لجميله عليهم ما يقال عن حمايتهم لبعض عائلته في هروبها نحو الجزائر وتهريب بعض فلول نظامه نحو أغاديس في النيجر حيث أقام امام المسلمين ذات يوم صلاته الجامعة. وأفرز موقف الجزائر طيلة حرب الاشهر الستة الاخيرة، موقفاً ملتبساً من القيادة الشرعية الموقتة لليبيا ممثلة في المجلس الوطني الانتقالي، يضاف اليه تبريرها المثير للاستغراب لإيوائها ولدي القذافي وابنته وزوجته وأحفادهما الهاربين بثروةٍ كبيرةٍ كما يقال من ثورةٍ شعبيةٍ. ولعل التفسير المقنع لحرص ساسة الجزائر على عدم نجاح «ثورة 17 فبراير» وبلوغها مقاصدها في تحرير ليبيا، هو خوفهم من انتقال النار الى بيتهم، ما يهدد نظامهم الذي يرى معارضوه انه قائم على تحالف السلطة والمال والذي لا يختلف عن انظمة أخرى في تسويق أسطورة محاربة «الارهاب» الذي بات ذريعةً للبقاء وسبيلاً للتحالف مع الغرب المصاب بفوبيا «القاعدة» واخواتها. وتتداول تقارير في الغرب ان المعارضين الجزائريين كانوا ينتظرون ما تنتهي اليه ثورة الشعب الليبي ليرسموا على ايقاعها خطواتهم المقبلة في الشوارع والميادين، عملاً بنظرية «الدومينو» أو «الأواني المستطرقة» التي ستعيد بلا شك تشكيل واقع جديد في منطقةٍ ظلت متخلفة عن التطور والحداثة ردحاً طويلاً من الزمان حتى عرفت شعوبها مكامن القوة الذاتية ووجدت مفاتيح التغيير فوضعتها في الأبواب الموصدة لتنفتح مغاليقها بالقوة. وتبقى حقيقة أخيرة لعلها «أم الحقائق» مفادها أن الجغرافيا قدر ولا بد لليبيا الجديدة أن تتعامل مع الجزائر القديمة القائمة وفق منطلقاتٍ وأسسٍ لا يتحول معها الجوار الى أحزمة نار تحاصر ليبيا المولودة من رحم النار علماً أن أحداً مهما بلغ تفاؤله لا يتوقع أن تتخلص جمهورية ليبيا من الإرث الثقيل لجماهيرية القذافي. ولن تسقط عقد العقيد وتعقيدات سياساته وممارساته بمجرد سقوطه فالأمر يحتاج الى زمنٍ لا بد منه لبناء ليبيا حرة، تخرج من ظله بعدما تحررت من سلطته. * الناطق السابق باسم الحكومة الليبية