في مثل هذه الأيام من العام 1999 كانت منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) تستعد لاختيار مدير عام جديد لها. وحين أقفل باب الترشيح وتم الإعلان عن القائمة الرسمية للمتنافسين على المنصب تبين أن من بينهم مرشحين عربيين أحدهما هو الدكتور غازي القصيبي الذي رشحته دولته (المملكة العربية السعودية)، والثاني هو الدكتور إسماعيل سراج الدين والذي لم ترشحه مصر وإنما رشحته دولة إفريقية، أظن أنها كانت بنين ما لم تخنّي الذاكرة. ولأن الأصوات العربية انقسمت وتشتت، ومعها بالطبع أصوات الدول الصديقة، فقد كان من الطبيعي أن يخسر المرشحان العربيان معاً وأن يفوز بالمنصب الرفيع مرشح ثالث هو الياباني كويشيرو ماتسورا. وها نحن اليوم أمام مشهد يكاد يكون صورة طبق الأصل لما جرى عام 1999 مع قرب نهاية الولايات الثانية لماتسورا والذي يغادر اليونسكو في 14 تشرين الأول (نوفمبر) المقبل. في مساء يوم 31 ايار (مايو) الماضي أغلق باب الترشيح وأعلن رئيس المجلس التنفيذي لليونسكو أن إجمالي عدد المتقدمين رسمياً لشغل منصب المدير العام لليونسكو بلغ تسعة مرشحين تبين أن من بينهم مرشحين عربيين أيضاً هما: المصري فاروق حسني، المرشح من مصر والسودان والكويت وليبيا، والجزائري محمد بجاوي، المرشح من دولة كمبوديا! ورغم صعوبة التكهن بنتيجة هذا السباق منذ الآن، إلا أنه من المرجح أن يتكرر سيناريو 1999 وأن يؤدي استمرار مرشحين عربيين داخل حلبة السباق حتى النهاية إلى خسارتهما معاً. ولن يكون لذلك سوى معنى واحد وهو أن الحكومات العربية لا تعرف كيف تستوعب دروس الماضي وتتعلم من أخطائها، ويبدو أنها ستظل كذلك فترة طويلة مقبلة! لا يجادل أحد في أهمية أن تقود اليونسكو شخصية عربية، خصوصاً في هذه المرحلة الحساسة من تطور النظام الدولي. وفي ما يتعلق بي لا يهمني كثيراً أن تحمل هذه الشخصية جنسية مصرية أو جزائرية أو سعودية أو أية جنسية عربية أخرى، المهم أن يكون من يتقدم لشغل هذا المنصب الرفيع عربي الهوى والضمير، منفتحاً على مختلف ثقافات العالم، ويملك من المواهب والقدرات ما يمكنه من تهيئة الأجواء الدولية لحوار حقيقي بين الثقافات يخلو من مظاهر الهيمنة والغطرسة وادعاءات الاستعلاء. لكن يبدو أن هذه الأمنية، شأنها شأن أمنيات كثيرة غيرها، ما تزال عزيزة المنال ليس لأنها صعبة أو مستحيلة، ولكن لأن حكامنا العرب لم يتقنوا بعد فن إدارة الصراعات على الساحة الدولية، ولذلك يخسرون معاركهم دائماً. فقد اختلط عليهم الأمر ولم يعودوا قادرين على رسم حدود فاصلة بين مساحات التنافس في ما بينهم، والذي قد تمليه أحياناً مصالح وطنية مشروعة، وبين واجب الوحدة في مواجهة الآخرين، والذي تمليه مصلحة قومية يعد الإيمان بها والدفاع عنها شرطاً لا غنى عنه لتمكين هذه الأمة من تبوء المكانة التي تستحقها على الساحة الدولية. ولا تتوافر لديّ معلومات مؤكدة عن الأسباب التي دفعت بالدكتور بجاوي لاتخاذ قرار مفاجئ ومنفرد بالنزول إلى حلبة المنافسة من دون تشاور أو تنسيق مسبق حتى مع دولته، على الأقل في حدود ما هو ظاهر الآن، ولجوئه إلى دولة غير عربية وغير إفريقية لترشيحه. ولأن كثيرين في العالم العربي يؤمنون بنظرية المؤامرة فمن الصعب على هؤلاء أن يصدقوا أنه يمكن لرجل في موقع ومكانة الدكتور بجاوي، والذي تربطه علاقة شخصية وثيقة بالرئيس بوتفليقة، أن يقدم على خطوة كهذه من دون تشاور مسبق مع الحكومة الجزائرية، وهو ما من شأنه زيادة حجم الشكوك التي تتسم بها العلاقات الشخصية بين القادة العرب، ومن هنا يخشى البعض من أن تؤثر سلباً في العلاقات الرسمية العربية المتوترة أصلاً ودائماً! وأياً كان الأمر فإن السؤال الذي بات يطرح نفسه الآن بشدة يدور حول التأثيرات المحتملة لخطوة كهذه على فرص نجاح أي من المرشحين العربيين. ورغم عدم معرفتي الشخصية بالدكتور بجاوي فقد أتيح لي أن أتابع إسهاماته الأكاديمية منذ سبعينات القرن الماضي، وهي إسهامات مهمة، ولذلك أعتبره واحداً من أساتذتي الكبار. غير أن الرجل لا يستمد مكانته الدولية من نبوغه الأكاديمي المبكر وإنما أيضاً من حضور دولي متميز على ساحات دولية متنوعة. فالرجل يعد واحداً من كبار فقهاء القانون الدولي وسبق له تولي رئاسة محكمة العدل الدولية، وهي أعلى منصة قضائية في العالم. لذا لا يحتاج إلى شهادة استحقاق مني أو من غيري للتدليل على أهليته لشغل المنصب الرفيع. ومع ذلك علينا أن نتنبه هنا إلى أن القضية التي نحن بصددها لا تتعلق بالجدارة والاستحقاق وإنما هي قضية سياسية بامتياز. يدرك الدكتور بجاوي أكثر من غيره أن اليونسكو منظمة دولية، وأن تصويت الدول الأعضاء في مجلسها التنفيذي، وهو الجهة المنوط بها اختيار واحد من المرشحين لا يصبح تعيينه في المنصب نهائياً إلا بعد إقراره من جانب المؤتمر العام، وهو يتم بناء على اعتبارات سياسية ومصلحية بحتة لا علاقة لها بالجدارة الشخصية. ومن المؤكد أن الدكتور بجاوي يتذكر ما جرى في انتخابات العام 1999. فالمدير العام الحالي لم يصل إلى موقعه بسبب إسهامات فذة في العلوم أو الفنون أو الآداب، وإنما لأنه كان صديقاً شخصياً لرئيس وزراء اليابان. ولولا قيام اليابان بوضع كل ثقلها وإمكاناتها وراء مرشحها ماتسورا، وهو ديبلوماسي محترف يعرف عن عالم الديبلوماسية أكثر بكثير مما يعرف عن عوالم الفكر والثقافة، لما تمكن من الفوز بهذا المنصب الرفيع. في سياق كهذا يبدو موقف الدكتور بجاوي، انتخابياً، أضعف، نسبياً، من موقف فاروق حسني. فالأول ليس مرشحاً رسمياً من جانب دولته، وحتى بافتراض أنها ستقدم له دعماً من وراء الكواليس فلن يكون له التأثير المطلوب وربما يضعف من موقفه بأكثر مما يقويه، خصوصاً أن الدولة التي رشحته رسمياً، وهي كمبوديا، لا تنتمي لا للمجموعة العربية ولا للمجموعة الإفريقية واللتين تعتبران الوعاء الرئيسي للأصوات التي يمكن لأي مرشح عربي أن يعتمد عليها. أما فاروق حسني فمن الواضح أنه يحظى ليس فقط بدعم رسمي من جانب الحكومة المصرية، ولكن باهتمام شخصي واضح من جانب الرئيس مبارك. وقد رددت أجهزة الإعلام في الأسابيع الأخيرة أن الرئيس مبارك هو الذي طلب شخصياً من نتانياهو أن تكف إسرائيل عن الحملة التي تشنها على فاروق حسني بسبب موقفه من قضية التطبيع وتصريحاته المتعلقة بحرق الكتب الإسرائيلية. ويبدو أن موضوع اليونسكو كان المحور الرئيسي للمناقشة في الاجتماع الذي عقد أخيراً بين الرؤساء الثلاثة: مبارك والقذافي وبوتفليقة. فقد أشارت بعض وسائل الإعلام إلى أن الرئيس مبارك كان عاتباً بشدة على الرئيس الجزائري بسبب دخول مرشح جزائري حلبة التنافس على منصب المدير العام لليونسكو وأن العقيد القذافي هو الذي بادر بالتوسط لإزالة هذا التوتر إلى درجة أنه قرر الذهاب بنفسه إلى الجزائر ليصطحب معه الرئيس بوتفليقة على الطائرة نفسها التي توجهت بهما معاً إلى القاهرة للقاء الرئيس مبارك! من الصعب على أي مواطن عربي أن لا يشعر بالحزن حين يرى أموراً يفترض أن تكون صغيرة وقد تحولت إلى معارك عربية كبيرة أصبحت تشغل قادة العرب وتستنفد طاقاتهم في وقت تواجه فيه أوطانهم وشعوبهم تحديات عالمية وإقليمية بالغة الخطورة. ومن المؤسف أن لا تتمكن النخب الثقافية في العالم العربي من ضرب المثل والنموذج في القدرة على إدارة خلافاتها بطريقة أفضل وأنبل من تلك التي يدير بها الحكام العرب خلافاتهم. ولا بد أن يشعر المواطن العربي بالأسى حين يدرك أن المجموعة العربية هي المجموعة الإقليمية الوحيدة التي عجزت، على مدى أكثر من ستين عاماً، عن تقديم شخصية فكرية أو أدبية أو علمية تصلح لقيادة اليونسكو، رغم أن منطقتهم هي مهد أرقى وأعظم الحضارات العالمية، من فرعونية وبابلية واشورية وفينيقية وإسلامية وغيرها. فقد سبق لشخصيات من أوروبا ومن إفريقيا ومن أميركا اللاتينية، ومن آسيا أن تناوبت القيادة على منظمة اليونسكو. لا أظن أن أمام الدكتور بجاوي، والذي تجاوز الثمانين من عمره بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، فرصة حقيقية للفوز بالمنصب، ولو كانت الفرصة متاحة لكنت أول المؤيدين لاستمراره في المعركة. ورغم أنني لست واثقاً أيضاً من قدرة فاروق حسني على حسم المعركة لصالحه، إلا أنني أعتقد أن الدكتور بجاوي أكبر من أن يقال إنه خاض الانتخابات لمجرد أن يجهض فرصة زميله المصري للفوز بالمنصب. ورغم كل تحفظاتي على فاروق حسني، والذي ارتكب أخطاء كثيرة لم يكن لها ما يبررها، إلا أنني أفضل شخصياً أن يكون المدير العام المقبل لليونسكو عربياً، حتى ولو كان فاروق حسني. لذا آمل أن ينسحب أستاذنا الدكتور بجاوي من ساحة هذه المعركة الصغيرة رغم أنه الأقدر والأكفأ. فهذه لعبة السياسة التي يعرفها هو أكثر من أي شخص آخر! * كاتب مصري