كنتُ أعيش راضيةً رغم شظف العيش وقلة المعاش، فبناتي دنياي، وزوجي عالمي، حرب داخلية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، قضت على أحلام أطفالي العيش بسلام، وقحط وجفاف قضيا على ما تبّقى لنا من آمال في حياة كريمة مكفول فيها حقنا بالغذاء والماء، قضى زوجي ليتركني مع سبعة من الأطفال لا حول لنا ولا قوة إلا الله، نفترش أرضه ونلتحف سماءه، سرت 300 كيلومتر ومعي سبعة من بناتي، وصلت فقط بواحدة منهن ودفنت الأخريات بعد أن قضى عليهن العطش والجوع وإلى الله المشتكى. انفطر القلب كمداً، وسالت العبرات مني، وأنا استمع الى مأساتها، وتمنيت ألا يكون بيني وبينها حدود ولا للوصول إليها قيود، لأقبّل قدمها علّها تغفر لي بعض تقصيري في أمر المسلمين هناك في الصومال. تُفيد الإحصاءات بأن 12 مليون شخص في منطقة القرن الأفريقي يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة بسبب الجفاف، وتقول الأممالمتحدة إن 64 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحادة في الصومال، وقد أعلنت الأممالمتحدة عن خمس مناطق مجاعة بما فيها مخيمات اللاجئين في مقديشو، وقد قتلت المجاعة أكثر من 29 ألف طفل دون سن الخامسة خلال التسعين يوماً الماضية فقط طبقاً للإحصاءات الأميركية. وقد سارعت المؤسسات الدولية وفي مقدمها الأممالمتحدة إلى إعلان الصومال منطقة مجاعة وأنها بحاجة الى مساعدات إنسانية عاجلة، وأعلنت عن أرقام مالية لتلك المساعدات، حيث طلب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون 1.8 بليون دولار لتمويل جهود الإغاثة في القرن الأفريقي. وتناست تلك المؤسسات أنها جزء من معاناة الصوماليين الذين لا يصلهم أكثر من 20 في المئة من قيمة المساعدات المرصودة لهم من جانب المجتمع الدولي، ناهيك عن استنزاف الأموال في الإنفاق على القوى العسكرية الموجودة في البحر والأرض الصومالية للحفاظ على مصالح الدول الكبرى من القراصنة الجياع. ولو قامت تلك المؤسسات الدولية بصرف الموازنات على مستحقيها، وتثبيت عملية سلام حقيقية بين الأطراف المتنازعة في الصومال لاختلف وضع الصومال كماً وكيفاً، فالأممالمتحدة ومؤسساتها المختلفة تستثمر مثل هذه الأوضاع المأسوية، لاستمرار تدفُّق الأموال والرواتب المجزية، فموازنتها باسم الصومال في عام 2010 بلغت 850 مليون دولار تحت مسمى «إطعام الجائعين» وفي عام الذي سبقه كانت 750 مليون دولار، وبطبيعة الحال لو كانت هذه الأموال تُصرَف للصوماليين فعلاً، لعاشوا حياة مرفَّهة، ولتوافَرت لهم المدارس والجامعات والمستشفيات، والطرق والمواصلات، ولكن كما تفيد المصادر القريبة من هذه المنظمات، فإن 80 في المئة من هذه الأموال تذهب الى المصاريف الإدارية، و 5 في المئة الى السلطات المحلية و 15 في المئة فقط قد تصل الى الجائعين في صورة ذُرة صفراء وبعض الأدوية والإسعافات. والعجيب أن المجاعة تحدث في أرض حباها الله بالخيرات وأنعم عليها بمصادر طبيعية وفيرة... فلمن لا يعرف، الصومال أرض زراعية تبلغ مساحتها نحو 8.1 مليون هكتار، تكفي لإطعام 142 مليون شخص، بينما لا يتجاوز عدد السكان 8 ملايين، وفيها نحو 6 ملايين رأس من الإبل (أكبر عدد في العالم)، و30 مليون رأس غنم، و20 مليون رأس بقر، ويخترق أرض الجنوب نهرا جوبا وشبيلي. ويتمتع الصومال بموقع إستراتيجي في القرن الإفريقي وبأطول ساحل في إفريقيا كلها، فطوله يبلغ 3300 كيلومتر، حيث يُشرِف على سواحل المحيط الهندي ومدخل البحر الأحمر والخليج العربي، ولذلك يكون من أكثر ممرات العالم ازدحاماً، ويمكن أن يُنتج 300 ألف طن من الأسماك و20 ألف طن من الجمبري، ولكن في ظل انعدام الدولة تُنهَب هذه الخيرات، وقد أثبتت الأممالمتحدة أن هناك أكثر من 700 سفينة صيد تصطاد الأسماك بصورة غير شرعية، ودول السوق الأوروبية وحدها تسحب من السواحل الصومالية ما قيمته 300 مليون يورو، هذا إلى جانب البترول والمعادن المختلفة، ولكن الصوماليين محرومون من هذه الكنوز والخيرات، بسبب الخلافات الداخلية والتدخلات الأممية. ولعل ما تقدم يُبرز بوضوح دور أجندات خفية تحاول الإبقاء على الصومال رهينة الحاجة والمساعدات، مشغولة بحربها الداخلية، مما يستدعي تدخلات خارجية تنهب خيرات البلاد وتُستجلب باسم مأساة الصومال المساعدات. الصومال صفعة مدوية في كرامة الأمة الإسلامية بل وصفعة للإنسانية جمعاء تحتاج جهد الجميع. ليكن الصومال عنوان عمل دول العالم الإسلامي المشترك، ترعاه الحكومات وتقوده المؤسسات، لنبني الصومال ونطرد منه المجاعة وسوء الحال.