لم تكن مفاجئة التحوّلات الاقتصادية السلبية في الولاياتالمتحدة، لا سيما أن العالم بدأ يشعر بإرهاصاتها مع بداية الركود الاقتصادي قبل أربع سنوات. من المعروف ان الولاياتالمتحدة عبارة عن شركات، إذ أن أصحاب الأموال فيها هم أصحاب القرار، فلا تُتخذ خطوة مهمة إلا بعلم هؤلاء وبموافقتهم وبشروطهم. كما أن أميركا تفاخر بكونها أم الرأسمالية العالمية المتأثرة بنيوياً بالمذهب الاقتصادي «الطبيعي»، الذي قال منظّره عن الملكية الفردية: «هذه الملكية حق من حقوق الطبيعة وغريزة تنشأ مع نشأة الإِنسان، فليس لأحد أن يعارض هذه الغريزة». الا ان هذه الغريزة - إلى جانب العقيدة التوراتية المحرّفة - بدأت تبني «الحضارة» الأميركية على جثث ملايين الأميركيين الأصليين في بداية تأسيس الولاياتالمتحدة (هناك إحصاءات تقول إن 80 مليوناً قتلوا جرّاء القتال والأمراض التي جلبها الأوروبيون المستعمرون الجدد معهم) وحتى الآن ما زالت أميركا تنتهج العقلية الغريزية الرأسمالية نفسها في التعامل مع شعبها ومع دول العالم. فالرأسمالية الأميركية تفرض ضرائب غير قانونية على الشعب الأميركي منذ بداية القرن العشرين، وفي عام 2008 انتشرت فضيحة «ضريبة الدخل» ما أثار جدلاً واسعاً حول مشروعية وقانونية الضرائب داخل الولاياتالمتحدة بشكل عام، كون الذين لا يدفعون هذه الضرائب الاختيارية تصدر أحكام جنائية بحقهم. كما شملت رأسمالية أميركا التعامل مع العالم كسوق ومع الناس كسلع، بلا قيم أخلاقية ولا إنسانية، إذ تستخدم أميركا كل الوسائل للحصول على غاياتها وعلى رأس هذه الوسائل القوة العسكرية المباشرة، فإما تضرب القوّات الأميركية الدول التي تأبى الانبطاح أمام مشاريعها السياسية والاقتصادية، أو تهددها وترهبها بإثارة الفتن والانقلابات الدموية داخلها؛ كتعامل الولاياتالمتحدة مع دول أميركا اللاتينية وعلى رأسها فنزويلا؛ صاحبة الموارد الطبيعية الكثيرة، والتي يتبنى رئيسها خطاً معادياً للإمبريالية الأميركية. كذلك الحروب التي شنتها أميركا على أفغانستان والعراق، والتي أدت إلى مقتل أكثر من 1.5 مليون عراقي ومئات آلاف الأفغان وشردت ملايين آخرين، للحصول على ثروات البلدين وفرض إرادتها السياسية عليهما. كما تنتشر القوات العسكرية الأميركية في كثير من دول العالم تحت ذريعة الأمن وحماية المصالح الأميركية وذرائع أخرى، وتستخدم أميركا أساطيلها وقواعدها العسكرية في العالم لابتزاز الدول سياسياً واقتصادياً، كل ذلك ضمن الرأسمالية الاستكبارية. ولا يخفى الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل، ليس لكون الأخيرة حليفة الولاياتالمتحدة السياسية والعسكرية، بل لأن أميركا ومعها بعض الدول الغربية تعتبر إسرائيل حامية للمصالح الاقتصادية الغربية في الشرق الأوسط، ولا تبالي هذه الدول في دعمها أسرائيل والدفاع عنها على رغم عنصريتها وظلمها وإجرامها - حتى بحق مواطنين أميركيين وغربيين - بمصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة. إن ظلم الولاياتالمتحدة وفسادها يأتيان ضمن رؤيتها ومنظورها للسياسة، ويحققان مقولة العالم السياسي اليهودي هانس مورغنتاو: «السياسة صراع من أجل القوة والسيطرة». كما أن ثقافة الطمع والإسراف في الرأسمالية الأميركية هي سبب رئيسي في تراجع الاقتصاد الأميركي. مع مؤشرات فشل الرأسمالية الإمبريالية، وبعد فشل الشيوعية في تحقيق منظومة اقتصادية عادلة، على أهل الاختصاص في الاقتصاد الإسلامي الاجتهاد للمساهمة في حل الأزمات الاقتصادية وإيجاد منظومة اقتصادية عادلة، ترشد الإنتاج والاستهلاك والتجارة في العالم، لا سيما أن في الإسلام ما يحفظ حقوق الفقراء والمساكين الذين هم أول ضحايا منظومات الاقتصاد الفاسدة، حيث كانت الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ التي قاتلت من أجل حقوقهم، كما فيه ما يحفظ حق أصحاب الطموحات المادية بالحدود التي تحفظ حقوق غيرهم. إن هبوط الاقتصاد الأميركي إلى جانب المخططات الشعبية الأميركية لثورة اجتماعية في الخريف المقبل، هي مؤشرات لأفول النجم الأميركي ونهاية عصره الذهبي، ونهاية «النظام العالمي الجديد» الذي خططت له أميركا ومن وراءها منذ قرون.