نظرات محمد تشع بالفرح، بهدوء يمرر يده على جسد سيارته، يحس نعومتها، يبتعد عنها قليلاً، يتأملها، يطيل النظر إليها، مثل رسّام انتهى من رسم لوحته أخيراً، يغمض عينيه كأنما يلتقط لها صورة يحتفظ بها في ذاكرته، شعور بالسعادة يغمر روحه وهو ينظر إلى سيارته التي انتهى الآن من غسلها وتلميعها، رش عليها الماء الحلو لتبدو أكثر لمعاناً. بعد ساعة سيلتقي مع أصدقائه حيدر وأحمد وهاني، يجوبون الشوارع ثم يذهبون إلى مطعم بيتزا في مدينة الهفوف، قال محمد لأصدقائه وهم في غمرة فرح اللقاء التي تجمعهم ليلة الجمعة، إنه سيودع هذه الليالي، هذه الصحبة الحميمة والجميلة، سيودعها لأنه سيتزوج من امرأة تسكن وعائلتها في مدينة الدمام، اشترط أهلها أن تقضي عطلة الأسبوع بينهم، سيفتقده أصدقاؤه، ويبقى مكانه شاغراً وواسعاً لا يملؤه أحد. أصاب أصدقاءه الوجوم بعد أن سمعوا خبر زواجه، وأنه لن يلتقي معهم كل ليلة جمعة، غيمة حزن تعبر أرواحهم، تعبر ببطء ويظهر ظلها في ليلهم، سيفتقدون هذا الفرح، سيغيب عنهم هذا الوقت العذب الذي يطلي أرواحهم بالنشوة، لم يستطع محمد أن يضيف أية كلمة أخرى، تفاجأ أن أحداً من أصدقائه لم يعلّق على خبر زواجه، أو أنه لن يعود يلتقي بهم كل ليلة جمعة، حينها أدرك حجم محبتهم له، شعر للتو بأنه يتعرف عليهم، أنه يراهم للمرة الأولى، بوجوه مشرقة مشعة، أن يطلّ في دواخلهم، ويلمس روحهم الجميلة الموزعة في أجسادهم، يسمع صوت أنفاسهم محشوة بزفرات لا يريدون لها أن تظهر، صمت متواصل، وكأن الصمت أعطاه فرصة ليستوعب معنى الصداقة، كأنه يستمع بإنصات إلى تعريف للصداقة، بدأ الوجوم يسري في داخله هو أيضاً، بدا وكأنه فقد السيطرة على قيادة سيارته، حتى أنه لا يستطع أن يركز على الطريق ويمر على أصدقاء آخرين يقفون على رصيف الشارع، تعودوا من أحمد أن يرنّ المنبه كلما مر بهم، يقترب منهم، ويرفع صوت الأغنية، يُنزل زجاج السيارة ويهز كتفيه طرباً، فيبادلونه التحية بصفير وتصفيق. مرّ عليهم من دون أن يلقي عليهم التحية، وحتى من دون أن يراهم، كان واجماً مختبئاً في صمته، دفع أحمد الذي يجلس على الكرسي الأمامي بشريط عبدالكريم عبدالقادر في جوف المسجل، وصدح عبدالكريم بأغنية «وداعية يا آخر ليلة تجمعنا». الصمت ينتشر في ليلتهم، أحمد يسند ظهره على طبلون السيارة مقابلاً لحيدر وهاني اللذين يجلسان في المقعد الخلفي، بينما محمد يقود السيارة بهدوء وإتقان، مبتعداً عن حفر الشارع وبقع الماء. بدأ اللحن يسري إلى أرواحهم، ويفسح للوجوم أن ينسحب من ساحتهم من ليلتهم، وتغزلُ كلماتُ الأغنية صحبتهم، تتركها معلقة في ذاكرتهم، اللحن يقف على قدميه ويفرد ذراعيه بطرب، فترفرف أجنحة الأصدقاء. ارتطمت كلمات الأغنية بصمتهم فطردته، «آه آه آه يا حظي ما وصل يمي وخطّا». رفع أحمد صوت المسجل وأخذ يغني مع عبدالكريم: «آه آه أنت غربة وأنا في دروبك محطة/ آه آه آ يا حظي ما وصل يمي وخطّا/ آه آه ....». انتفض أحمد نزع قميصه ورماه إلى طبلون السيارة الخلفي وأخذ يرقص مع اللحن، جلس في أسفل المقعد، وصار جزؤه السفلي في موضع القدمين للراكب، وصدره محاذياً لمقعد السيارة الذي كان يجلس عليه، أخذ يضرب برأسه على المقعد، ثم يرفع رأسه ويعيد ضربه مرة أخرى بشكل أقوى، دخل في موجة من الحزن وغاب في الموسيقى، يضرب رأسه بيديه كمن يلطم على مصيبة، وأخذ يلطم صدره، ضج جسدا حيدر وهاني، انتشرت فيهما الموسيقى وحلّ بهما الطرب، اقتربا من أحمد، حشرا جسديهما في الفتحة الفاصلة بين المقعدين الأماميين، اقتربا من أحمد وشاركاه الرقص ارتفع أحمد بجسده واقتربت رؤوسهم ودخلوا في الرقص، دخلوا في الأغنية دخلوا في الصوت الجريح: «قال الوداع قال/ قال قال الوداع/ لحظة وداع قال». أخذ حيدر يغني بأعلى صوته ويرقص على رغم ضخامة جسده الذي يعلو وينزل، فتميل السيارة مع رقصات حيدر، دخل هاني في رقص يرفع يداً وينزل أخرى، محمد الذي يراقبهم مبتسماً، يغالب ارتجاف صوته، فلمعت عينه بدمعة أمسكها عن أن تسيل، هاني يقابل حيدر في رقص متناسق، تشابكا بالأيدي فأخذت السيارة تهتز وتميل، وتميل أرواحهم وتدخل في الإيقاع، أغنية توثق ذاكرتهم، ستظل ترفرف في أيامهم كي تذكّرهم بصداقتهم، أغنيتُهم مرآتُهم، وستظل الأيام تصقل هذه المرآة كي تلمع. أغنية تهدر الآن، مثل مياه تروي نخيلاً متجاورة في حوض واحد، عيون محمد تنظر في المرآة إلى حيدر وتبتسم بحزن شفيف، ويداه تمسك جيداً بالسيارة التي تهتز، الشارع يطرب والليل يميل، عيون محمد تنظر في المرآة على الطبلون الخلفي، قميص أحمد وشماغ وعلبة بيبسي، على الزجاج الخلفي خطوط بلون بني مشدودة كأوتار بلون أبيض وخط عريض، كتبت عبارة: «من هو اللي يصبرنا...»، بقع بيضاء على باب دبة السيارة، أنوار السيارة الخلفية تشع بوهج الأصدقاء وبحرارة ليلة الجمعة، في الطريق سيارة تبتعد، تهتز وتميل من الجهة التي يجلس بها حيدر، سيارةٌ تظهر وتختفي تحت ضوء الشارع الأصفر، سيارةٌ يبتلعها الشارع من بعيد... ضوءٌ أحمر غافٍ كجمرة في الصدر كغياب الأصدقاء. * قاص سعودي. 12-7-1435ه