كأننا نكتب في رحيل رجل كبير وهو لم يمت بعد. ستيف جوبز استقال من رئاسة «آبل»، هذا كل ما حصل. لكن التشكيك بقدرة ورثته على حمل تلك التركة الإبداعية سمة من سمات البشر تجيز لهم «تمويت» المبدع قبل ان يحين أجله. الرجل بعث برسالة إلى مجلس الإدارة خطّ فيها: «كنت أقول دائماً، إذا جاء يوم لا أستطيع فيه القيام بواجبي وما هو منتظَر مني كمدير لآبل، سأكون أول من يعلن ذلك... للأسف هذا اليوم حان. وها انا اقدم استقالتي من منصب مدير عام آبل». تأسّف الرجل على انقطاع سيل مواهبه وعجزه عن تلبية نداء «واجبه». ولعلّه في فعله هذا يشبه نيلسون مانديلا الذي عرف حدّه وتوقف عنده، ونقل التركة لآخرين من بعده. والفارق بينهما أن مانديلا اكتفى راضياً عما حققه، أما جوبز فلا يبدو أنه اكتفى، ولكنه، بالتأكيد، راضٍ عما أنجزه. وما إن أذاعت الشركة خبر استقالة مديرها حتى هبطت أسعار أسهمها في البورصة 7 في المئة. وبعيداً من منهجية التحليل في الاقتصاد، لماذا أثّرت هذه الاستقالة في البورصة لولا تلك السمة المقيتة؟ في كانون الثاني (يناير) الماضي، دخل جوبز (56 عاما) في إجازة مرضيّة امتدت طويلاً، وتوقّع كثيرون إلا يخرج من محنته سالماً. وكان في 2004، خضع لعملية زرع كبد، ونجا من سرطان. «لعلّه نفذ منه، بسبب تطبيق اخترعه خصيصاً لمكافحة السرطان»، قال شاب عشريني ممازحاً، تعليقاً على نجاة الرجل من داء سريع الفتك. غير أن مزاح الشاب لم يخلُ من تلميح إلى شخصية ستيف جوبز وموهبته وعبقريته وبعد نظره، وخصوصاً إذا تابعنا مسيرته التي حققت الأيبود والأيفون والأيباد. ولا تحتاج الكتابة عن ستيف، الرجل الرؤيوي، وإرثه إلى خبير في تطورات التكنولوجيا. ربما يكفي استخدام «بنات أفكاره» ومعرفة أنه هو وراءها، لكي يشعر المرء بمدى تأثيره في نفوس البشر، هو الذي كان يرأس أيضاً شركة «بيكسار» للرسوم المتحركة ويعرف حقاً كيف يثلج قلوب الناس، من سن السابعة حتى السابعة والسبعين، خصوصاً أنه كان المنتج المنفّذ لفيلم «حكاية الألعاب» (العام 1995، إخراج جون لاستير). ولعلّ عمله في الترفيه والتسلية عزّز رؤيته في عالم التكنولوجيا، فأطلق ألواح اللمس. العابث بالأيفون والأيباد، والأجهزة المقلّدة، يستطيع أن يتلمّس مدى شغف جوبز في انتشال البشر من وحشة وحدتهم. قدّم لهم تلك الألواح رقيقة خفيفة، واستعمالها يسير على كل من يقتنيها. ولكل عمل وسلوى صنع تطبيقاً مناسباً. تلك الألواح المتواضعة المظهر تحمل في طيّاتها تعقيدات العلوم والتقنيات التي حرص جوبز على إخفائها عن المستخدم لأنها لا تلزمه. وكل ما عليه أن يفعله هو الاستمتاع بالنقر على التطبيق وزحلقة الأصابع على تلك الزجاجة اللمّاعة. وتبدو الأصابع عليها كأنها تؤدي رقصة على الجليد. وعبر تلك الألواح يستطيع العابث بها استحضار الغائب صوتاً وصورة إلى حضنه، إلى غرفة جلوسه، أو حديقته أو عمله... إلى أي مكان يشعر فيه بالغربة والوحدة، من دون عناء، وبلا أسلاك تعيق حركته ووضعيته. أقوال ستيف جوبز، الساخر والمهني و»الحكيم»، بقيت وستبقى طويلاً على ألسنة أهل الصناعة كما العامة، وأبرزها أن المنتج المبتكَر والمتقن يبيع نفسه، منقذاً بذلك مندوبي المبيعات من عناء الشرح والتطويل وجفاف الحلْق. ومن أقواله أيضاً كلمة وجّهها إلى العباقرة والمبدعين، في إحدى ندواته، إذ قال: «إلى أولئك المجانين، الهامشيين، المتمردين، المشاغبين... الذين ينظرون إلى الأشياء نظرة مختلفة، أولئك ليسوا مغرمين بالضوابط والقوانين... تستطيع أن توافقهم الرأي، أن تختلف معهم، أن تمدحهم أو تذمّهم، ولكن الأمر الوحيد الذي لا تقوى عليه هو أن تتجاهلهم لأنهم يغيّرون الأشياء... يمضون قدماً في سباق الإنسانية، قد يراهم البعض مجانين، نحن نراهم عباقرة، لأن أولئك المجانين الذين يظنون أنفسهم قادرة على تغيير العالم، هم الذين يغيرونه فعلاً»... فهل كان يشير ستيف جوبز إلى نفسه؟