لم أسمع في ثورات الغضب العربية مرادفات لكلمة «ارحل» في مخاطبة هذا الزعيم العربي أو ذاك، مع أن المقام يقتضي أن يفهم المطالَب بالرحيل ما يريد الشعب. قضيت سنوات الطفولة والمراهقة في إحدى ضواحي بيروت، في المتن الجنوبي من أعمال جبل لبنان، وكنا صغاراً نسمع بضع عشرة كلمة بمعنى ارحل إذا أغضبنا الأهل أو «أبو سمير الدكنجي» بوجودنا. كنا نسمع مرادفات خصبة المعاني من نوع: انقلع، تقلّع، انكتم، غور، إنطَمْ، إنغَمْ،، غيب، تخيّب، دَرْمِل (والأخيرة كلمة لبنانية جبلية ربما لا يفهمها أهل الساحل). كانت هناك أيضاً كلمة «روح»، بمعنى «اذهب»، إلا أنها نادراً ما تقال وحدها، وإنما يرافقها: روح، روحة بلا رجعة، أو: راح؟ الله لا يردّه، أو: تطلع روحه إن شاء الله. ومرة أخرى، هذا كله لولد صغير لم تتح له فرصة أن ينهب الخزينة، أو يقتل بعض أبناء بلده، أو يعقد تحالفات مشبوهة. كان الغضب على الولد الشقي أن يسمع المثل وهو يرحل: صوفك وخروفك وعيني ما تشوفك، وكل هذا لأنه نتف ذنب القطة. في حال الغضب يفقد الولد اسمه، ولا يعود سامي أو رامي أو حتى أسامه، وإنما «الغضيب» أو «المغضوب» فإذا نام قيل: نومة بلا قَوْمِة، أو: جعله ما يفيق، أو: الله ما يقيمه. حتى إذا مرض يكون الدعاء عليه لا له، ومن نوع: إن شاء الله ما يكون مرضه بسيط (بسيطاً). أعتقد أن القادة العرب الذين يواجهون ثورات شعوبهم عليهم كانوا تصرفوا في شكل أفضل لو وضعوا في مكانهم الصحيح منذ البداية. إلا أن تربيتهم كانت غير ما خبرنا صغاراً، و «الفرفور ذنبه مغفور» حتى يثور الشعب عليه. الدعاء نادراً ما كان طلباً لخيْر هذا أو ذاك، وإنما كان من نوع طلب: الخيبة وقلة الهيبة وفضاوة الجيبة. وحتى إذا كبر لا يسلم ويقال: شئمته مثل شئمة بوليس بلدية، فقد كان موظف الحكومة موضع تحقير لقلة المرتبات، ولم يكن هناك من يعمل للحكومة إلا إذا عجز عن إيجاد عمل آخر، وكنا نسمع عن ابن الحكومة انه: لا نفع بينفع ولا أذى بيدفع. كل واحد منا صغيراً كان «زبون العوافي»، وأعتقد أن وراء هذه العبارة قصة شاب مرّ بقوم يحاولون رفع حمار سقط تحت ثقل الحمل الذي وُضِع على ظهره، واكتفى الشاب بأن يقول لأصحاب الحمار «عوافي» من دون أن يساعدهم، وأصبحت العبارة تعني قلة الذوق أو نقص الهمة. وكان كل ولد في عمري متهماً بها، مع أنها أصح في موضوع القادة الأشاوس، فهم لو اهتموا بشعوبهم بدل حساباتهم السرية في الخارج، لما ثار الناس عليهم. كنا نهان أو نعاقب من دون ذنب، ويكفي أن «الحشرية» تعتبر جناية لا مجرد جنحة، فبين الأمثال الشعبية: عزّي مع المعزين ولا تسأل الميّت مين. ومثله: حطْ راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس. وقد نحاول التهذيب ونقول ميرسي، على عادة اللبنانيين، ويأتي الرد: تعرف تقول ميرسي؟ مرسة (أي حبْل) تلف على رقبتك. وإذا قال واحد: بردون، كان التعليق: بردون؟ يا شعشبون، يا جرذون، يا حردون (حرباء). حتى الغرام لم يكن مستحباً فالأهل يقررون من سيحب الشاب أو الشابة ومن سيتزوج أو تتزوج. وعندما رأت أم عادل أحدنا وقد بدأنا نودع المراهقة مطرقاً مهموماً سألتنا ما مشكلته وقلنا: مغروم. وهي اقتربت منه وقالت: بتحب؟ حبك بُرْص وسبعة خرسْ. وسمعت بالمعنى نفسه: حبَّك حبْ وغضب الرب. المثل الشعبي «أبو البنات فقير قد ما اغتنى»، والشاب حتى إذا تزوج لا ينجو فالتعليق عادة: جاز وحبْ حجاز، لأن الأوبئة كانت كثيرة في الذهاب الى الحج والعودة منه في تلك الأيام السالفة. ويسمع الزوج، ولات ساعة مندم، «المرا تحمل بلاها يمّا بلاها» أو: المرا مثل السجادة ما بتنظف إلا بالخبيط (أي الضرب). وإذا لم يعجبه الكلام يسمع: مصّ ليمونة حامضة. غير أنني أريد أن أختتم بمعمر القذافي فهو لو ولد في ضاحيتنا وعذّب قطة لا شعبه كما فعل لسمع التي تقول: ولد؟ يلعن ساعة السلامة. وإذا لم يُلعن هو تُلعن «الداية التي سحبت راسه وقالت: صبي». مشكلة القذافي انه لا يزال صبياً. [email protected]