شكل بيان العاهل السعودي في شأن التطورات المأسوية في سورية نقطة فاصلة بين مرحلتين في المعالجة العربية للأزمة السورية، مرحلة الصمت العلني والتفاعل غير المباشر عبر المتابعة وتقديم النصائح لرأس النظام لكي يوفي بعهوده التي قطعها على نفسه من أجل الإصلاح والاستجابة لمطالب السوريين المشروعة. ثم مرحلة المعالجة المستندة إلى موقف واضح بلا لبس يدعم حقوق الشعب السوري في الحرية والكرامة والحفاظ على حياته وفتح الباب للسوريين جميعاً، حكومة ومعارضة، لمشاركة محسوبة بدقة لأطراف عربية ودولية في الخروج من الأزمة التي تزداد حدة وعمقاً وباتت تنذر بعواقب وخيمة على الإقليم ككل وليس فقط على سورية. ولعل الخيارين اللذين وردا في بيان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وهما الحكمة أو الفوضى، فضلاً عن النداء بوقف آلة القتل والعنف وحقن دماء السوريين، يوضحان طبيعة الإدراك السعودي لما وصلت إليه أزمة سورية إنسانياً وسياسياً وأمنياً من تدهور عميق، ومن رفض لتعنت النظام السوري وعنفه الذي وصل إلى مدى غير مسبوق، وعدم صدقية روايته القائمة على مواجهة عصابات مسلحة تريد الشر للبلاد، وهي الرواية التي تقترب من خيالات السينما الهابطة ولا علاقة لها بواقع الأمر. فضلاً عن إدراك ما وصل إليه الوضع السوري من حساسية تضيق معها الخيارات المتاحة، ومن ثم التأكيد على ضرورة التحرك من النظام ومن محيطه بسرعة من أجل إنقاذ سورية، البلد العربي المهم، وشعبها الشقيق الذي يستحق حياة أفضل بكثير مما يعيشها الآن، وعاشها بالفعل طوال أربعة عقود سابقة. كسر الموقف السعودي حائط الصمت العربي السميك، وجلب معه تحركات عربية ذات مغزى كسحب سفراء دول الكويت والبحرين للتشاور، وبيان مجلس التعاون الخليجي الذي دان العنف في سورية ضد المدنيين، وتصريحات وزير الخارجية المصري التي وصفت الوضع السوري بأنه وصل إلى نقطة اللاعودة، ومن قبل بيان الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي الذي تحدث فيه عن ضرورة وقف العنف فوراً والبدء في الإصلاحات الموعودة ورفض التدخل الأجنبي في أي شأن عربي والاستفادة من تجربتي مصر وتونس. وعلى رغم أن دول عربية أخرى لم تتخذ موقفاً حاسماً يقترب من الموقف السعودي الخاص والخليجي العام المصحوب بتعاطف شعبي متنام مع الأشقاء السوريين، فإن الأمر بات مفتوحاً على احتمالات عدة ربما يجسدها التساؤل حول ما الذي يمكن أن تفعل مثلاً جامعة الدول العربية وهي مؤسسة النظام العربي، لمصلحة سورية الدولة والشعب، ولمصلحة وقف الانزلاق إلى حال فوضى قد يستحيل السيطرة عليها لاحقاً. الناظر إلى خريطة المواقف والتفاعلات الدولية والإقليمية التي تحيط بسورية الآن يجد أربعة توجهات أساسية: أولها توجه تمثله تركيا بوضوح كامل ووراءها الولاياتالمتحدة ودول أوروبية كبرى، يريد تصعيد الضغوط سياسياً ودعائياً واقتصادياً على النظام من أجل الاستجابة للمطالب الشعبية ووقف آلة القتل والترويع والبدء في حوار حقيقي لغرض الإصلاح المؤسسي والسياسي والأمني واتخاذ قرارات صعبة من النظام ذاته، وامتداداً لهذا التوجه هناك دول تريد مساعدة النظام على الخروج من مأزقه بوقف العنف وتعديل سلوكه الذاتي ولكن، من دون التعرض لضغوط أو عقوبات دولية، وأبرز ممثلي هذا الاتجاه الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وكلاهما حتى اللحظة لم يفلح في الوصول إلى الهدف المرغوب. والتوجه الثاني، وتمثله منظمات غير حكومة عربية ودولية، ينحو إلى تأييد المعارضة الشعبية باعتبارها حقاً مشروعاً وبديلاً محتملاً للنظام حال سقوطه، لكنه لا يعلن صراحة عن حجم التأييد والمساندة التي يوفرها للمعارضة في الداخل ربما لأن هذه المساندة المباشرة غير موجودة أصلاً، أو لأنها لا تخرج عن الجانب المعنوي والإعلامي وحسب. أما التوجه الثالث الذي تمثله إيران ومعها العراق وحزب الله اللبناني فيقف مع النظام السوري قلباً وقالباً في إستراتيجيته الأمنية ويخشى انهياره ويقدم له الدعم المادي والمعنوي معاً، وهي الأطراف التي تشكل محوراً استراتيجياً قائماً على اعتبارات سياسية وطائفية في آن. ثم التوجه الرابع والأخير، وتمثله غالبية الدول ومنها العربية، وهو الشعور بقدر من القلق، ولكن، مع تفضيل سياسة الترقب والانتظار لمجريات الأحداث، ربما لضيق ذات اليد وقلة الحيلة وعدم وجود أي أدوات للتأثير في الموقف السوري الرسمي، باعتبار أنه شديد التعنت من جانب ومعزول فعلياً من جانب آخر. التوجهات الأربعة، بتنويعاتها العملية المختلفة، تلتقي حول نقطة مركزية هي القلق الُمركب على مصير النظام السوري، إما لاحتمال انهيار النظام فجأة وفي الآن نفسه عدم قدرة المعارضة على أن تقدم البديل المناسب المسيطر على الأوضاع، وإما لفشل سياسته الأمنية ومن ثم التعرض للسقوط والدخول في دوامة من الفوضى بتداعيات غير محسوبة سورياً وإقليمياً. الأمران معا لهما صلة بحال المعارضة السورية، إذ، على رغم تنوع أشكالها التنظيمية في الخارج، وغياب القائد في الداخل، وعلى رغم اتفاقها على مبادئ عامة للتغيير ورحيل النظام، إلا أنها لا تبدو قادرة على حسم المعركة لمصلحتها، اللهم إلا بعد فترة طويلة من النضال وتضحيات جسام وتغيير كبير في آليات الحركة والتنظيم، وكذلك بعد التمكن من إحداث تغيير جذري في المعادلة الداخلية التي ما زالت تصب حتى اللحظة في مصلحة بقاء النظام. قوام هذه المعادلة الداخلية أربعة عناصر أساسية، أولها تماسك النخبة المحيطة بالرئيس بشار الأسد وترابطها، لا سيما النخبة الأمنية العسكرية وهو ترابط مصيري بكل معنى الكلمة يُصّعب من عملية التفكيك اللهم بضمانات وتدخلات خارجية تحديداً. وثانيها استمرار مساندة قطاع التجار وأصحاب الأعمال للنظام وعدم الانقلاب عليه على رغم تذمر الكثيرين من رموز هذا القطاع من السلوك الأمني الوحشي في مواجهة المتظاهرين، وثالثها تماسك الجيش كمؤسسة والتزامه أيديولوجية البعث وحماية النظام، ورابعها فقدان المعارضة الوحدة العضوية المناسبة في ما يتعلق بالمشروع السياسي المتكامل وآليات التصعيد ضد النظام، ناهيك عن فقدانها الظهير الخارجي القوي والمؤثر دولياً، مع الأخذ في الاعتبار أن معنى الظهير الدولي هنا أكبر كثيراً مما تقوم به تركيا لحسابات ذاتية محضة في رعاية بعض فصائل المعارضة الخارجية وفي ممارسة ضغوط سياسية ودعائية على الرئيس السوري. العناصر الأربعة لتماسك النظام القمعي السوري على النحو السابق هي أيضاً التي تساعد على تصور البديل، سواء من أجل تعديل سلوك النظام جذرياً ومن ثم التحول إلى نظام جديد منزوع القمع والوحشية وذلك بصورة سلمية تدرجية محسوبة مدعومة إقليمياً ودولياً، أو من أجل إسقاطه غير مأسوف عليه مع دعم ومساندة نظام بديل يقبله الشعب السوري من دون الوقوع في الفوضى أو دفع حالة الاستقرار الإقليمي الهشة إلى مصير مجهول. والواضح أن إسقاط النظام بالضربة القاضية يتطلب إستراتيجية أكبر كثيراً من قدرات المعارضة الداخلية وحدها حتى في حال تصور وحدتها وبروز قيادة مقبولة من السوريين جميعاً، كما أنه يتطلب تغييراً جوهرياً في عناصر استمرارية النظام المُشار إليها. وربما العاملان الرئيسان هنا يتعلقان باحتمال وقوع انقلاب عسكري يطيح الرئيس بشار وزمرته الأمنية، واحتمال تغير موقف قطاع التجار وأصحاب الأعمال من النظام والانضمام إلى المطالب الشعبية. والمؤكد أن الرئيس السوري والمحيطين به يأخذون أمر الانقلاب العسكري على محمل الجد، ويضعون الاحتياطات المناسبة لذلك، ويلاحظ أن الآلة الإعلامية السورية قدمت تغيير وزير الدفاع العلوي علي حبيب بوزير الدفاع الجديد المسيحي الديانة داود راجحة باعتباره رسالة تؤكد امتلاك الرئيس بشار زمام الموقف الأمني والعسكري. وإن كان يمكن النظر إلى الأمر من زاوية أخرى قوامها الخوف والقلق مما قد يجري في الجيش برعاية رمز عسكري علوي مهم وراءه أسرة كبيرة، أو أن هناك خلافاً كبيراً بدأ يصل إلى الدوائر العليا من الجيش السوري في شأن المعالجة الأمنية الخطرة التي تزج بالجيش وجنوده في مواجهة المواطنين وتأثير ذلك في تماسك الجيش وفي علاقته بالشعب. أما العامل الثاني المتعلق بمدى استمرار دعم طبقة التجار وأصحاب الأعمال، واحتمال انقلاب هذا القطاع على النظام والتحول إلى دعم الثورة الشعبية من دون تردد، فبالقطع سوف يكون لهؤلاء دور حاسم إذا ما تم تصعيد الثورة السلمية في مرحلة لاحقة إلى عصيان مدني شامل، ومن دون مشاركة التجار وأصحاب الأعمال في أمر مهم وحيوي مثل العصيان المدني وإسقاط مؤسسات الدولة الاقتصادية والتجارية وتحمل التبعات في المرحلة الأولى على الأقل، فسوف يكون صعباً للغاية نجاح مثل هذه الخطوة في الثورة السورية السلمية. والواضح أن تعديل سلوك النظام جذرياً وبصورة إرادية ذاتية هو أمر محل شك كبير، وهو ما تنطق به وتؤكده كلمات الرئيس بشار إلى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في زيارته الأخيرة لدمشق والتي ركزت، بحسب الإعلام السوري، على عدم التهاون في مواجهة العصابات المسلحة، وهو ما يعني أن سورية ليست في وارد إعادة حساباتها أو التخلي عن الحل الأمني العنيف أو التجاوب مع النداءات العربية والدولية بالتحول إلى عملية سياسية ذات صدقية داخلياً وخارجياً على السواء، وبالتالي يصبح البديل هو ممارسة الضغوط المختلفة دون العسكرية في المرحلة الأولى على الأقل لكي يغير النظام ذاته ويقدم بعض التضحيات في ذلك. غير أن الضغوط والعقوبات وحدها لا تكفي فهي بحاجة إلى مسار أكثر شمولاً، وفي تصوري أن سورية بحاجة إلى من يساعدها ويحميها من نفسها في آن واحد، وهنا يمكن أن تكون مظلة الجامعة العربية - على رغم ضعفها النسبي في هذه المرحلة الحرجة ومن غياب حركيتها المصرية بفعل الانشغال المكثف بشؤون الداخل - أحد أهم المسارات التي قد تساعد في تغيير المعادلات الحاكمة للأزمة السورية، فهي بيت العرب، وتعترف بقدر سورية وقيمتها عربياً وإقليمياً، والخطوة الأولى تتطلب الدعوة العاجلة إلى اجتماع وزراء خارجية الدول العربية للبحث في أزمة سورية بأبعادها الداخلية والخارجية معاً، وتقديم رؤية عربية مشتركة لتفعيل مطلب الحكمة الذي نادى به خادم الحرمين الشريفين، مصحوباً بضمانات ومحفزات ومساندة دولية لابد من تأمينها بكل جدية، ولا بأس أن تشكل لجنة من أربعة وزراء خارجية عرب لمتابعة القضية تكون همزة الوصل بين الحكومة السورية وبين الجامعة العربية وبين ممثلين عن المعارضة السورية المقبولين من الجميع، وأن يكون هناك جدول زمني قابل للتحقيق. وبذلك لا تقتصر مسارات الحل أو الضغط على تركيا وحسب بكل ما لذلك من نتائج سلبية محتملة. شاركت سورية تاريخياً في وضع أطر حل تحت مظلة الجامعة العربية لعدد من الأزمات العربية الداخلية، كفلسطين ولبنان واليمن والجزائر، ولا بأس أن تكون هذه المرة هي موضوعاً للحل العربي.، وإلا جاء البديل إقليمياً ودولياً وبتكلفة عالية ومخاطر غير مسبوقة. * كاتب مصري