إذا كانت صحيحة تلك الشكوك التي أثارها الفارق الكبير في عدد الأصوات بين التي نالها الرئيس محمود أحمدي نجاد وبين أصوات مؤيدي منافسه الأبرز مير حسين موسوي، فصحيح أيضاً ان مجموعة من الأوهام والقراءات السيئة رافقت التغطية الإعلامية للحملة الانتخابية الإيرانية ولما أعقبها من أحداث. واحد من الأوهام يقوم على ان كثافة الاقتراع خصوصاً في المحطات المفصلية، تصب دائماً في مصلحة المرشح الداعي الى التغيير بمعناه المباشر والفوري، أي خروج رئيس وتولي رئيس آخر مكانه. ماذا لو كان التغيير الإيراني من طينة تختلف عن تلك التي رسختها عقود من الأفكار النمطية؟ زاوية مختلفة للنظر الى أحداث الأسبوع الماضي في إيران تقترح ان حامل لواء التغيير ليس سوى احمدي نجاد. العودة الى مناظرتيه التلفزيونيتين مع موسوي ومع مهدي كروبي تفيد ان الرئيس قد خاطب بالفعل حساسيات شرائح واسعة من الإيرانيين. وفي الترجمة الإيرانية لكلام احمدي نجاد تظهر نتيجة غير تلك التي عممتها وسائل الإعلام ومنحته علامة «راسب» بعد المناظرتين. لقد انتقد الرجل انتقاداً شديداً الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني وابنه واتهمهما بأنهما رمزا الفساد في إيران. يتعين تمرير هذه الكلمات في الشيفرة الإيرانية لإدراك عمق الارتدادات التي تتسبب بها في الأرض الإيرانية. رفسنجاني هو، من دون ريب، واحد من مؤسسي الجمهورية الإسلامية ومن صانعي سياساتها و «ملوكها» حتى عندما كان الإمام الخميني على قيد الحياة. وانتقاده بقسوة يتجاوز شخصه ليبلغ الممارسات الملتبسة التي انخرط فيها عدد كبير من أباء الثورة وقادتها والتي عادت عليهم بفوائد لا تخفى عن عين. أما تناول ابنه فيشير الى حالة من الضيق التي يعيشها فقراء إيران حيال أبناء كبار المسؤولين الذين لم يقدموا شيئاً للثورة ولا شاركوا في الحرب الإيرانية – العراقية بل نالوا الحظوة والمكانة بالاستناد الى أسماء آبائهم. والحرب تلك محطة تأسيسية في تاريخ الجمهورية الإسلامية لا يستقيم أي فهم لواقعها الحالي من دون العودة الى نتائج الحرب والأثمان الباهظة إنسانياً واجتماعياً التي تحمّل الجزء الأكبر منها أفراد الطبقات الفقيرة من الإيرانيين، في المدن والأرياف، سواء بسواء. بهذا المعنى يكون احمدي نجاد الذي قيل انه لجأ الى الكذب في المناظرتين التلفزيونيتين، قد سدد ضربة قاسية الى المؤسسة الدينية السياسية برمتها، وهذا ما يفسر العداء الذي لم يتورع بعض أقطاب رجال الدين عن إعلانه حيال الرئيس. لقد استهان العالم بذكاء الرجل وبقدرته على اللعب في المنطقة الفاصلة بين مشاعر المؤمنين العاديين الذين غذاهم بما يريدون سماعه من آيات الإيمان الشعبي (من نوع الهالة الخضراء التي قال انها أحاطت به أثناء إلقاء كلمته في الأممالمتحدة) ووجههم، في الوقت ذاته، ضد المؤسسة التي يشكل رفسنجاني رمزها الأكثر فساداً، بغض النظر عن صحة الاتهام هذا. لذا، يمكن الزعم ان كثافة الاقتراع هذه المرة كانت لمصلحة «المحافظين» الذين قدموا مرة جديدة الدرس البليغ في ان الديموقراطية والليبرالية ليستا رفيقتي درب دائمتين. وان في حالات عدة تحمل صناديق الاقتراع الى كراسي الحكم من هم في خانة «المحافظين» أو المتشددين، على النحو الذي فعلته مناطق السلطة الفلسطينية مع إسلاميي «حماس» قبل أعوام. وعلى من يحصر هذه الظاهرة بالمجتمعات «غير الأصيلة في ديموقراطيتها» ان يعود الى نتائج الانتخابات الأوروبية القريبة والى سابقاتها في النمسا مع يورغ هايدر وغيرهما. أما موسوي فاختار الإفادة من شعبية الرئيس السابق محمد خاتمي، بحسب ما طالعتنا الصحف الغربية. بيد ان ولايتي خاتمي الرئاسيتين تكادان تكونان نموذجاً مدرسياً في الفشل السياسي الكامل وفي لا فاعلية الفصاحة والتحذلق اللفظي في وجه القوة العارية للنظام وأجهزته الأمنية. وإذا كان الرئيس السابق ما زال يحظى بشعبية في صفوف الشباب وسكان المدن، فمن واجب المراقب التمعن في الطابع الإطلاقي البعيد عن النسبية الذي جرى في سياقه تناول هذين الفئتين. تقول الإحصاءات ان سكان المدن والمراكز الإقليمية يشكلون ثمانين في المئة من الإيرانيين وان أكثريتهم ينتمون الى الطبقة الوسطى. لكن مرة إضافية تنأى هذه الأرقام عن تلمس الفروق الدقيقة في البنية الاجتماعية وتقفز الى الاستنتاج ان كل هؤلاء هم من المؤيدين، من دون جدال أو نقاش، للتيار الإصلاحي. الحقيقة قد تكون مختلفة. فأحد لم يكلف نفسه عناء تقديم شرح لمزاج القاطنين في حزام الفقر في جنوبطهران، على سبيل المثال، أو للمزارعين في الأرياف الذين قد لا تعني لهم كلمات من نوع حقوق الإنسان وحرية التعبير شيئاً إذا ما قيست بما قدمه لهم احمدي نجاد من وعود، ولو مبهمة، عن عدالة اجتماعية يحققها توزيع عائدات النفط توزيعاً مباشراً، وما أكده لهم من التزام بإيمان ديني بسيط لا تسيطر عليه الحوزات ورجالها. والعنصر الأخير يتعرض للإهمال عند كل نظر في الشأن الإيراني على رغم ان الإسلام ما زال جزءاً كبير الأهمية في الهوية الإيرانية، قبل التشدد والاعتدال وبعدهما، تعادله في الأهمية منظومة القيم الأسرية التقليدية. لا يرمي هذا الكلام الى التقليل من حجم التأييد الذي يحيط بموسوي أو بالتيار الإصلاحي الإيراني. لكنه يهدف الى رسم الإطار الذي يتحرك هذا التيار فيه، وهو الإطار القريب من النخب السياسية والدينية والمهنية. وإذا كان العالم الخارجي (الغربي) يشغل نفسه بتفسير الاتجاهات والأمزجة التي يتوزع التيار الإصلاحي عليها، إلا أن العالم يُهمل حقيقة ان إنزال الآلاف من المتظاهرين الى الشوارع لا يعني بحال اكتمال نصاب التأييد الجماهيري للإصلاحيين.