لم أشعر يوماً أن الكتابة ورطة كما هي الآن، لأن أية كلمة أو عبارة أكتبها أشعر أنه يتوجب عليّ أن أتلوها بشرح للكلمات، كي لا يتم التأويل والتفسير والاستنتاج كما يريد بعضهم، وليس كما أقصد. منذ زمن ألاحظ بكثير من الضيق والغيظ تكرار استعمال هذا التعبير: إنه ليس التوقيت المناسب... ولأعط أمثلة كي لا يكون كلامي ضبابياً... أرسلتُ مقالات عدة إلى جرائد سورية، ولم تُنشر لأن التوقيت غير مناسب أو انه ليس التوقيت المناسب، وتم حذف بعض الأسطر من مقالات نُشرت لي. وعندما سألت لماذا تم حذفها كان الجواب انه ليس التوقيت المناسب لذكر تلك الحوادث التي أشرت إليها... مع أن كل ما أكتبه هو من صميم الواقع، من دون تجميل أو تزوير، فما قيمة كتابة إن لم تقدم الصورة الواقعية لحياة الناس بكل راهنيتها وصدقيتها؟ ومن خلال صداقاتي مع الكثير من الكتاب السوريين، كانوا يشاطرونني الضيق والاستياء من تناذر «إنه ليس التوقيت المناسب»... وقد تحدث كل منهم عن تجاربه في نشر بعض مقالاته في الصحف السورية، وكيف كان يُرفض بعضها، وتقتطع أجزاء من بعضها الآخر تحت البند نفسه: التوقيت المناسب... أحب أن أعطي بعض الأمثلة عن المقاطع المحذوفة، ففي إحدى مقالاتي التي تحدثت فيها عن مفهوم الإصلاح، وذكرتُ أن الإصلاح يعني إصلاح النفوس وتفاصيل حياتنا، وأعطيت أمثلة عدة عن الخلل في حياتنا، وأشرتُ ضمن ما أشرتُ إليه إلى الأطباء الذين يتقاضون مبالغ باهظة ويقومون بإعفاء بعض الشبان من خدمة العلم، مع العلم أنه تمت محاسبة هؤلاء الأطباء، وزج الكثير منهم في السجون، وهي خطوة إصلاحية مهمة، لكن ذلك المقطع من مقالي تم حذفه! هذا مع العلم أن برنامج «بقعة ضوء» ومسلسلات سورية عدة عالجت مواضيع حساسة (وكانت في ما مضى محظورة) بجرأة لافتة، وببراعة فنية وثقافية عالية، بل شعر المواطن السوري أن حلقات «بقعة ضوء» وبعض المسلسلات مثل «غزلان في غابة من الذئاب» و «لعنة الطين»، كما لو أنها تزيل طبقة الخوف والحذر عن روحه، وتبوح نيابة عنه بما يخشى أن يقوله... فلماذا إذاً تحذف بعض العبارات من مقالات لكتّاب سوريين أو يرفض نشر بعض مقالاتهم لأن التوقيت غير مناسب؟ تحضرني الآن حادثة راهنة أجد أنها منسجمة مع السياق الذي أتحدث عنه، فقد تلقيتُ تقريعاً قاسياً من أحد رؤساء تحرير مجلة سورية على مقال لي نشر في «السفير» بعنوان «التخوين»، وصمّ أذني صوته يصرخ بي: مقالك هذا غير معروف رأسه من مؤخرته (قالها بالعامية) ولم أستطع أن أجد خرم إبرة لأندسّ بين كلماته وأعبّر عن رأيي... وقال ان كل ما كتبته غير صحيح، وأنه يرى شريحة من الناس أوسع من الشريحة التي أراها وألتقيها... وبعد أن شحذتُ قواي تمكنتُ من الرد عليه، بأنه حرٌ ألا يعجبه المقال، أما التسفيه بهذه الطريقة العدائية فليس من حقه... وبعد خمس دقائق لم يعد الحوار حواراً بل اصبح صراخاً واتهامات، أي ما يؤكد ما كتبته عن التخوين، واختتم المكالمة المدوية بأن اعتبر ما كتبته مجرد فشة خلق! ونجحتُ في اقتناص برهة من الوقت لأصرخ: «أنا لا أكتب كي أفش خلقي». كنتُ مذهولة ومتألمة من كلامه، كلمات أشبه بصفعات، كما لو أنه يتمنى ان يعاقبني بطريقة ما، لأنني لا أتفق مع النموذج الذي يبتدعه لما يجب أن يكون عليه المثقف أو المثقفة، الكاتب أو الكاتبة... ووجدتني مستفزة لأحكي ما أجّلت قوله مراراً ومراراً محاولة تلطيف المشهد الثقافي والتغاضي عن عيوبه، ولفّ المشهد بعبارة التسوية الممتازة: ماشي الحال... ولكن، ثمة لهب طالع من روحي يحرق أصابعي لأكتب بأن هذا هو التوقيت المناسب لنقول كل شيء... لنقول ان الكتابة الصادقة المُحبة والملتزمة بالوطن والمواطنة هي الكتابة الجريئة النزيهة، وأننا في قلب التوقيت المناسب لنقول ما نود قوله، مثقفين ومواطنين... نحن في قلب التوقيت المناسب، لنزيل حواجز تكلست، بين مؤسسات تعاني من الترهل، وتحتاج الى دم جديد نابض بالإبداع وقبول الآخر، المختلف والصديق، الآخر الذي هو الرئة الثانية في صدري... نحن في قلب التوقيت المناسب لبناء علاقة ثقة ومؤازرة بين المثقف والمؤسسات الثقافية... غير مقبول أن يوصف مقال لكاتب بأنه فشة خلق، أو أن بدايته مثل مؤخرته! (يا للخيال المبدع)! غير مقبول أن تُحذف أسطر من مقالات كتّاب كما لو أننا تلامذة قاصرون ويقوم الأستاذ بتصحيح موضوع التعبير! ما أعرفه أن هناك نوعين من التوقيت، توقيت ميلادي وتوقيت هجري، ويمكنني أن أؤرخ كتاباتي ومقالاتي بأحد هذين التوقيتين... أما التوقيت غير المناسب فهو مصطلح معوق للحياة وللإصلاح، لأننا نعيش الآن مرحلة تجلي حب الوطن، حين لم يعد في الإمكان أن نقول: ماشي الحال، والتوقيت غير مناسب.