«حرية، حرية»... نادى متظاهر عربي في احد البلدان العربية الغاضبة. جملة اسمية واحدة، نص كامل. كررها من بعده مئات المرات مئات المتظاهرين، نطق بها بنبرة من عيل صبره وفاض يأسه ويبست روحه، وبنغمة من يقامر بحياته حتى اول طلقة تأتيه من قناص مكشوف الهوية، أو رجل امن سافر، امتهن القتل كمصدر رزق هرباً من البطالة، نطقها بعزيمة من وعد نفسه بالكرامة أو الموت. خرج الصوت من أحشائه، من مسامات جسده، من عينيه، لا من حنجرته أو خيشومه فحسب، كما يقول درس البيولوجيا، اتحدت الحرية بالصوت صارت هو، صارت جسده المنتفض، ألا يسكن الغضب الجسد..!؟ ظل يكررها كي يسمعها جيداً ويألف أصواتها (فونيماتها)، وكأنه يمرن النفس على تهجئتها والنطق السليم بها، ومن ثم الدفاع عنها ونذر الروح لها. يدجن ذاته كي تتواءم معها وتتبناها، في جدلية تعصى على التبسيط، تفعل فيها اللغة - الصوت في الفكر والوجدان والشعور والإرادة والجسد. بدا المتظاهر المذكور إنساناً كادحاً محروماً، لم يتسن له على الأرجح قراءة بعض تعريفات مفهوم الحرية التي ما إن يقبض المرء على تعريف منها يظنه الأصوب والأنجع والأمضى حتى يتسرب من بين أصابعه كقبضة رمل، ففي إحدى لحظات التنظير المتبصر والجلي تتحول الحرية إلى مجموعة التزامات قانونية أخلاقية، إلزامية أو رضائية توافقية شفهية، تنفي الحرية الفردية، كي تعود تؤكدها في علاقة تبادلية جدلية، تجعلها مشروطة، إجبارية ملزمة. ألم يهتف جان جاك روسو «نحن مجبورون أن نكون أحراراً». لا حاجة لمتظاهرنا لهذا الكلام. لحريته المنشورة دلالات تعنيه هو، في زمانه ومكانه، تستشف من هوية من يخاطبه، من هوية المرسل إليه، من الواقعة، فالنص يكتسب معناه من خلال شروط صياغته، هي باقتضاب حقه، مضافاً إلى حقوق الآخرين، بتقرير كيفية إدارة حياته العامة المشتركة، وتعيين قوامين عليه جديرين بالقوامة بإنجاز ما كان يحلم به ويخشى أن يتفوه به إبان كوابيسه الليلية، حيث ينتصر الهذيان اللاوعي على المكبوت أو المحظور والمنهي عنه. هي تلك السلالة من الحريات غير القابلة لإعادة النظر أو للمساومة من قبل اليميني الليبرالي وحتى اليساري العصري والتي تتيح للفرد، كإنسان ذي عقل ووجدان وكرامة، أن يدلي برأيه في كيفية إدارة حياته، أن يعلن رضاه أو عدمه، أن يتذمر وينتقد ويحتج أو يقول «لا بأس»، دون إكراه، أن يستعيد ملكة الكلام العام، والكلام، كأداة تعبير، وظيفة بشرية فطرية وحتى غير بشرية، ألا تئن باقي الكائنات وجعاً أو جوعاً أو احتجاجاً؟ هزته نشوة بعض الشعوب العربية التي برأت من أنظمتها وتقاوم بعزم فلوله وردمياته وأنقاضه، خلصته من شعوره بالدونية، من اثقال مداراة عجزه ونقصانه، ودفعته إلى التحدي، تحدي ذاته والآخرين، في اختبار قوة جنوني. إلا أن هذه النبرة المتمردة كانت تخفي طبقات من الانجراحات، المختزنة في وجدانه وعقله، فضحتها دمعة المهانة التي التمعت في عينيه، لماذا شاءت الطبيعة أن تكون العينان اللتان تشهدان على الكون والحياة مقر الدموع!؟ فضحت دمعته شعوراً عميقاً بالمهانة وفقد الاعتبار والعجز والإصرار. والمطعون في كرامته إما أن يغرق في جلد الذات وكراهيتها بنوع من المازوشية، وإما في جلد المحيطين به وكراهيتهم، وإما أن يثور ويطالب في حقه في الاعتراف الفردي أو الجماعي، ككائن آدمي له كرامة ومنزلة في الطبيعة والمجتمع، وكمالك لطاقات فكرية وشعورية، ولأنا خاصة. والأمر يحيلنا إلى جدلية «السيد والعبد» الشهيرة التي يعتبرها هيجل «محرك التاريخ» التي تدفع البشر إلى صراع حتى الموت يسعى فيه كل فرد لنيل الاعتراف به. فإن حدث وأدى الخوف الطبيعي من الموت بأحد المتصارعين إلى الخوف والإذعان بات عبداً. وهذا ما يفسر الثورات أو عدمها. حرية، حرية، هي الآن وهنا الاعتراف بآدمية هذا «العبد»، وإنسانيته وحاجاته المتعارف عليها كونياً، وتحريره من المهانة والشعور بالفشل والنقصان، ومن وصمة القصور السياسي اللامتناهي والنفي من الحياة العامة وربطاً النفي عن الذات. هل ثمة قضية تستحق الصراع اكثر من هذه؟ * كاتبة لبنانية