سمعتُ أكثر من مرّة كلاماً من مسؤولين كما من مواطنين عن جدوى الثورات العربية، وما حققته وما لم تحققه، وقول بعضهم: أما كان حريّاً بهذا الشعب العربي أن يعيش مستوراً في ظلّ الأنظمة التي بات يعرف خيرها وشرّها، بدلاً من البحث عن بدائل مجهولة، والارتماء في مجاهل المغامرة غير المضمونة النتائج، وفتح المجال للأيدي الغريبة وتلك المتطرفة للعبث بمصير البلاد؟ لا نعرف بعد ما هو تحديد العيش المستور، ولا شكل الستر الذي يريده هؤلاء لشعوبهم. وقد مرّت 50 سنة على المنطقة وشعوبها وحكّامها «كأنها أمس الذي عبر»... لم يتغيّر شيء، حتى صرنا الجماد، وصورة إرهابي عالمي وامرأة خاضعة، مغلوب على أمرها. وقد بلغ الفساد أَوَجَه حتى لم تبقَ من العيش لقمة «مستورة» تُؤكل. سمعتُ امرأة مصرية في ميدان التحرير تصرخ في وجه المصوّر التلفزيوني: «أنا بتظاهر عشان أولادي يأكلوا لقمة نظيفة ما فيهاش مرض السرطان!». صار أقصى الحرية لنا، حلم برفع قانون الطوارئ، بعدما سُجن مَن سجن، وخُوِّن مَن خُوّن، وهاجر من هاجر، ونُفي من نُفي، وبعدما صار كلّ مثقف جاسوساً، وكلّ ناشط حقوقي عميلاً، وكلّ معارض متآمراً. فأيّ عيش بقي لنا لنتستّر به؟ ولنفترض ان تلك الشرطية التونسية لم تصفع بائع الخضار بوعزيزي وتذلّه ذلّةً تقفل في وجهه أبواب الحياة، فيضرم النار في جسده ويلهِب نار ثورة تونس، ولنفترض أيضاً ان خالد سعيد لم يمت على يد الشرطة المصرية، ولم يتداعَ الآلاف عبر «فايسبوك» و «تويتر» للتظاهر، ويتدفقوا الى ميدان التحرير ثائرين، ماذا كان ليتغيّر اليوم في عالمنا العربي؟ لو كلّ ما حدث لم يحدث، لكنّا اليوم، كما في الأمس، نجلس أمام التلفاز نستمع هنا الى معلَّقة للرئيس الفلاني عن وحدة الأمّة العربية، وموعظة من الرئيس العلاني عن تحرير فلسطين، وبين هذا وذاك نتحسّس قعر جيوبنا الفارغة، ونتنهّد! لا شيء كان ليتغيّر. فالمسؤول يغرّد في وادٍ، والشعب في وادٍ آخر. همومه غير همومنا، وتطلّعاته غير تطلعاتنا، وانتماءاته غير انتماءاتنا، وأهواؤه غير أهوائنا. هو متخصّص في ابتداع الأعذار، لكلّ مصيبة عذر، ولكلّ تقصير عذر. وإذا كان للتلكؤ في تعبيد طريق زراعي ألف عذر. فكيف بمحاكمة الفاسدين من المحسوبين على النظام؟! ومن قال إن أربعين سنة من القمع تمحوها أربعون سنة من الثورة؟ أجمل ما في الثورات شجاعة صانعيها، وأفظع ما فيها دناءة مستغلّيها. وقد قيل ان الثورات يصنعها المفكرون، وينجزها الشجعان ويستفيد منها الانتهازيون، وما أكثرهم. ومستغلو الثورات كمستغلي خيرات البلاد وتعب شعوبها وعرقها وشقائها لمصالحهم الشخصية وزيادة ثرواتهم وغنائمهم. وعندما يتحدّث محلّلون اليوم عن رغبة الغرب في لملمة الثورة المصرية ووضع نهاية لها ب «التي هي أحسن»، باعتبار ان لا ديموقراطية إلا عبر الشرعية والأفكار والمواقف المعلّبة التي أُجبِرنا على تجرّعها منذ الصغر... أليس في ذلك استغلالٌ لدماء شهداء الثورة وكفاح الثوار الشباب، وقهر لهؤلاء وأحلامهم وطموحاتهم؟ مؤلم ان يكون الردّ على الثورات العربية ناراً وباروداً في أجساد المتظاهرين، ورمياً لهم بأحجار الطوب، وتوسيع أبواب السجون والمعتقلات، وكمّاً للأفواه وقطعاً لوسائل الاتصال، بدلاً من الحوار مع الشباب والمعارضات ولمّها تحت لواء الوطن الواحد، والاستماع ثم الاستماع ثم الاستماع الى الشعب ومطالبه! وقد أذهلني رئيس وزراء النروج إثر ما تعرّضت له أكثر الدول سلاماً وأمناً ورخاء، من هجومَين إرهابيين راح ضحيتهما عشرات القتلى، إذ قال: «سننتقم... بمزيد من الديموقراطية». * نائبة رئيس تحرير مجلّة «لها»