كلّما تراجع الجيش الألماني أو انهزم في معركة خلال الحرب العالمية الثانية، كان غوبلز يحتلّ المنصة ويشفع خطابه بلقطات مصوَّرة تبرز تفوق أرتال الصليب المعكوف والخسائر النازلة بالحلفاء. لم تمضِ ساعات على إيراد السيد حسن نصرالله عرضاً موضوعه الأكثرية الشعبية مقابل الأكثرية الانتخابية النيابية، حتى صحّ ظنه بناءً على ما أخرجته مؤسسات الأبحاث الموكول إليها إجراء الدراسات، وانبرت الوحدة الاعلامية العائدة ل «حزب الله» توزع الأرقام والنسب، وتعطي المعارضة تقدماً مؤكداً على 14 آذار. كذلك استخرجت الوحدة عينها مقتطفات من تحليلات وحوارات اسرائيلية متلفزة لبيان ثبات «حزب الله» في موقعه ومقدار نفوذه وهيبة سلاحه في لبنان، فيما اعلمتنا، بفرح ومباهاة، ان ثنائي حزب الله/ أمل قد حاز نسبة تفوق 92 في المئة من اصوات الناخبين في دوائره. تستدعي هذه المقدِّمات، المساقة ظاهراً في عجالة، جملة ملاحظات حيال الأسلوب المتّبع من «حزب الله» والمراد الدفين الذي يستبطنه الخطاب وملاحقه المبرمجة. فإلى صدارة المقاومة، متقمّصة في «حزب الله» على دوام الدهر، تفرد الماكينة الاعلامية الضخمة مجالاً مرموقاً لزعامة العماد عون، الحليف الوفي، عملاً بحرفية الأوصاف المخلوعة عليه، وتكيل المديح لصموده وحيازته اللزمة المسيحية بامتياز، قياساً بخصومه، الملحقين تعريفاً وعضوياً بالحريرية التي ينسب إليها وحيدة رفدهم بالأصوات والمال، وبالتالي تطويب مرشحيهم أو تسللهم في الخفاء وبالمراوغة الى دوائر معينة. بيد ان العنوان الأساس، والمرجح تسويقه بغزارة بعد إتمام التوليف والتوزيع، انما يشكل عوداً على بدء يلامس الطعن بالمعايير التي أرستها وثيقة الوفاق الوطني المنبثقة عن الطائف، ويلتف على نتائج الانتخابات الصادرة من صناديق الاقتراع وفق النظام المعمول به دستورياً. لا غرو أن يرتاح الطرح الجديد/ القديم الى حضور الثنائي الشيعي الكاسح في الجنوب والبقاع الشمالي، كونهما معقلي المقاومة وخزّانها البشري، مقارنة ببسالة الحليف العوني في الحديقة الخلفية، حيث يقف أعوان الغرب الخائبون ورموز التخاذل والتوطين والاستسلام في مواجهته. لا يخدش المنطق والوجدان ان الأحادية الفعلية العصبانية الساكنة مذهبياً، تكاد تستنسخ تجارب شمولية حديدية صرفة، وتحاكي نموذجها، وتقتبس من مطالعاتها ومدلولاتها. يتبرَّم «حزب الله» من المناصفة، يقولها مواربة لضرورات تاكتيكية، ريثما يتمكّن من مزيد جلاء جراء إمساكه بالسلاح، واستثمار مراعاة سائر القوى السياسية لحاجات السلم الأهلي على وجه الاملاء. ومن خلال عدسة مصغرة، لقاء التمويه على شبق السلطة المتأصِّل لدى العماد عون، يجاري هذا الأخير، وبكيدية موصوفة ازاء خصومه من الأفرقاء المسيحيين، مساعي حزب الله المغلفة باتقان، غير آبه بتبعات مواقفه وتداعياتها، ناهيك عن إخلالها بالثوابات الميثاقية وتقاطعها مع السياسات النَّجادية الآيلة الى نسف الجسور مع المجتمع الدولي، والتحاقها عملياً بمحور الممانعة. وعليه، يضحي حاصل مسيرة التيار الوطني الحرّ سنداً لمشروع مأزوم يتوسّل امتلاك السلاح غاية في ذاته، ما لم يستفق ويعدّل المسار رأفة بتاريخه وناشطيه، وعودة الى اصوله المدنية وتطلعاته الحداثية المُغيّبة. فلا يعقل أن يصمّ التيار أذنيْهِ عن الحسابات الرقمية الهادفة الى الاخلال بالمعادلة اللبنانية، واجلاس الجمهورية في عهدة ولاية الفقيه ساحة مفتوحة على صراع اقليمي لربما اتخذت سورية مسافة منه عسكرياً، ومنصة صواريخ يخضع تشغيلها لمؤازرة ملف ايران النووي، أين من مقاصد جهوزيتها رفض التوطين ودعم الحق الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة واستعادة عافيته الوطنية في خضمّ المزايدات والصعوبات. ليس من الحكمة إغفال الوزن الشعبي الراهن لحزب الله. هذا معطى يحرص العقلاء عليه، وتستجيب قوى 14 آذار لواقعه، محاذرة إدخال لبنان في المجهول. غير أن القبول الطوعيّ بالمشاركة، المرفق بقراءة رصينة مسؤولة تنشد مظلة الدولة حاضنة تستوعب المكوّنات السياسية كافة في حياضها، لا يعني بأي حال الرضوخ لمستحضرات الأقلية النيابية كيفما جاز لها التلاعب بالمفاهيم والأرقام. في المقابل، قد يكون حجم التصويت في دوائر مغلقة رافعة معنوية يحوطها الالتباس نتيجة قبضة الجهاز الحزبي الأوحد، لكنه يحمل أيضاً، معاني غياب التنافس الحرّ واقتلاع مقدماته، على ما أظهرته الحملة الانتخابية في الجنوب والبقاع الشمالي، وفي الضاحية الجنوبية على كتف العاصمة بيروت. على هذا النحو، تنقلب مدعاة الافتخار باكتساح الأصوات على مروجها، وتتخذ صفة ولبوساً مذهبياً فاقعاً، نقيض البيئة التي يمثلها التيار الوطني الحرّ مع سواه. وإذا ما تمادينا في التحليل والشروحات، لوجدنا الظاهرة المعنونة شعبية، نظير الجاري في الأنظمة الشمولية، وان على مصغَّر، هو في حد ذاته أصغر من لبنان، عينة بائِنة عن تصحير واستفتاء معهودين، منافيين لأصول الديموقراطية ومعارجها. أرسى حزب الله نموذجاً اجتماعياً واقتصادياً في مناطق نفوذه من دون منازع جدي، حده استئصال المخالفين ومنعهم من الحركة والتجذّر، ومجرّد المطالبة ببدائل، خشية تفشي الاعتراض. ولئن حتّمت السياسة الأخذ بنتائج الاستحقاق من دون المسبّبات، فالتمادي في الفلسفة الرقمية المغالطة، وهي في المناسبة مشروع انقلاب على القبول اللفظي المعلن بفشل «المعارضة» في انتزاع الغالبية النيابية، يدعو الى محاججة المقولة ودحضها انطلاقاً من المعايير الديموقراطية وحرصاً على نصابها المقبل على اجتهادات تسلطيّة وتأويلات. غالب الظنّ ان حملة المشاكسة قد بدأت، تمهيداً للاستدارة حول تركيبة المجلس النيابي، وممارسة نهج اشغالي يقارب التعطيل، مفاده استبدال الموقع التمثيلي والدفع في اتجاه الاستغناء عن منطوق الاقتراع. فكما خرج مقتدى الصدر في العراق، مفرِّقاً بين الحوزة الصامتة والحوزة الناطقة (المناطة به حصراً)، سوف يستنبط حزب الله، بمعونة العماد عون، شعاراً مشابهاً من الأرومة الفكرية عينها، يتجلبب بالمسوح الشعبي، ويفضي الى افراغ الطائف من مضمونه، وايقاع رئاسة الجمهورية في مصيدة الخيار بين الاحتجاب العملاني والشلل. عند هذا المفصل، تكون حيادية رأس هرم السلطة حياداً عن مستلزمات الدستور وواجب السهر على المؤسسات وفق الجوهر الديموقراطي، أي تصبح عملية الانتخاب، بشقيها الرئاسي والتشريعي، تمريناً شكلياً فاقد المفاعيل، وزهرة يتيمة زرعت في حقل ملؤه الأشواك. حين تختزل السياسة بالتوكيد على صدارة مقتني الترسانة الصاروخية وصاحب التشكيلات العسكرية الموازية للجيش الشرعي، تصبح الانتخابات خدراً لزوم اللحظة، تماشياً مع الأعراف، شرطها الإبقاء على واقع الحال في الوقت المستقطع، الى ان يحين موعد القطاف. ذلك فصل من روزنامة مصدرها بعيد، يماشي مشروعاً استراتيجياً اقليمي المنشأ، غريب المصطلحات قياساً بما توافق عليه اللبنانيون بعد طول تنازع ودمار. يتعين احترام الرأي الآخر في الظروف كافة، ومهما بلغت درجة الاختلاف، فذلك من تعاليم المدرسة الديموقراطية بامتياز. السؤال المرتقب في مقلب الممانعة مختصره: هل ستعفي لبنان ومواطنيه من مشقة جديدة وترضى بلون من الهدوء والاستقرار، أم ستغرقنا في بحر المناكفة والجدال العقيم حول المشتقات والتفويض وقداسة السلاح؟ الكلّ يعرف مغزى الهجوم الاستباقي المُؤيّد بناتج بحثي أعدّ سلفاً وتسلل في سياق خطاب يراد منه شرعة ومرجع خلاف الطائف، وبحلة تصحيحية مسالمة تحقق ما عجزت غزوة 7 ايار عن إنجازه بالقوة، وتجعل من المجلس النيابي المنتخب كسيحاً جُرِّدَ من العكازات. * كاتب لبناني