غداً يحل علينا شهر رمضان الكريم، فيتسابق الكثير من العقلاء في كسب الأجر والثواب على مدار العام من عند الله، ويزداد هذا التسابق ويصل ذروته في شهر القرآن، والعبادة والغفران والرحمة والعتق من النيران، هذه الفئة هي التي سلكت الطريق الصحيح الذي ارتضاه لنا ربنا جل وعلا، وأوصانا نبينا محمد «عليه الصلاة والسلام» فيه خيراً. في رمضان المبارك تحولات حقيقية في مسيرة الحياة، ما إن يدخل رمضان حتى يطرأ على الكون كلّه في السماء والأرض تحولات كثيرة، ففي السماء تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، وتفتح أبواب السماء، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قَال رسولُ اللَّه صلى الله عليْه وسلَّم: «إذا دخَل شهْر رمضان فُتِّحَتْ أبْواب السماء وغُلِّقَتْ أبْواب جهنَّم وسُلْسِلَتْ الشياطين»، وفي السماء ينادى يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، وفي الأرض تصفد الشياطين. في المباحات يحرم الطعام والشراب والجماع من طلوع الشمس إلى غروبها، في الفرائض يضاعف ثوابها، قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «يتْركُ طعامه وشرابه وشهْوتهُ من أجْلي، الصِّيامُ لي وأَنا أَجْزي به والْحسنةُ بعشْر أمْثالها» البخاري، في النفل يقلب ثوابها «من أدى فيه نافلة كان كمن أدى فريضة في ما سواه»، في الروائح ترتفع الرائحة البشعة من فم الصائم فتكون أعلى من رائحة المسك. السؤال الذي يطرح نفسه مَنْ يطرق باب مَنْ؟ هل نحن نطرق باب رمضان، أم أن رمضان هو الذي يطرق بابنا؟ سؤال قد يكون فلسفياً بعض الشيء لكنه مهم جداً وبتحديد الإجابة يتحدد المسار، وبمعرفة الجواب يعرف الطريق... الناس صنفان صنف هو الذي يدق باب رمضان ويسعى إليه متشوقاً مستعداً، وهذا حال النبي «صلى الله عليه وسلم» وصحابته الكرام الذين كانوا يقولون «اللهم بلغنا رمضان»، فهم متشوقون لهذا الشهر المبارك، قد عرفوا قدره فشعروا بأهميته، عرفوا أنه كفارة لما بين «الرمضانين» فأقبلوا عليه ليغفر الله لهم، عنْ أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «الصلواتُ الخمس، والجمعة إِلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتنب الكبائر» مسلم. وعرفوا فيه الرحمة والرأفة فأسرعوا إليه، اشتاقوا إلى سحر يجلسون فيه مع الله سبحانه، ويسمعون نداءه، ويلبون هذا النداء، هل من مستغفر فأغفر له، عنْ أبي هريرة أنَّ رسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ينزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا حين يبقى ثُلثُ اللَّيلِ الآخِر فيقول من يدعوني فأسْتجيب له، من يسْألُني فأُعطيه، مَنْ يستَغفرني فأغفر له»، البخاري. وصنف من الناس رمضان عندهم هو الذي يدق بابهم فيفاجأون به ويرتبكون لمجيئه وكأنه ضيف ثقيل، فيحاولون أن يذبحوا وقته ويزيلوا ملله بنوع من الملهيات، بالمسلسلات، ورحلة الخيمات، والسهرات، ورحلة النوم الطويل، هذا ما نشاهده من تسابق القنوات الفضائية على عرض الكثير من المسلسلات لشد انتباه المشاهد طيلة رمضان، فأين نحن من هذه المعاني المشرقةِ المضيئة؟ لقد كان المجتمعُ الإسلامي الأول مضربَ المثل في نزاهته، وعظمة أخلاقه، وتسابق أفراده إلى مرضاة ربهم جل جلاله، وكانت التقوى سمةً بارزة في محيا ذلك الجيلِ العظيم الذي ساد الدنيا بشجاعته وجهاده، وسارت بأخلاقه وفضائله الركبان مشرقاً ومغرباً، فقد كان إمام المتقين عليه الصلاة والسلام قمةً في تقواه وورعه، وشدة خوفه من ربهِ، فكان يقوم الليل يصلي ويتهجد حتى تفطرتْ قدماه الشريفتان، وكان يُسمعُ لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من النشيجِ والبكاء، وهو الذي غُفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه. أما صاحبهُ وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان يقول يا ليتني كنت شجرةً تعضدُ ثم تؤكل! وكان له خادمٌ يأتيه بالطعام، وكان من عادة الصديق أن يسأله في كل مرة عن مصدرِ الطعام؛ تحرزاً من الحرام! فجاءه خادمُه مرةً بطعامه، فنسي أن يسأله كعادته، فلما أكل منه لقمة قال له خادمُه: لِمَ لم تسألني - يا خليفةَ رسولِ الله - كسؤالك في كلِ مرة؟ قال أبو بكر: فمن أين الطعامُ يا غلام؟ قال: دفعه إليَّ أناسٌ كنتُ أحسنتُ إليهم في الجاهلية بكهانةٍ صنعتُها لهم، وهنا ارتعدتْ فرائصُ الصديق، وأدخل يده في فمه، وقاء كلَّ ما في بطنه وقال: واللهِ لو لم تخرجْ تلك اللقمة إلا مع نفسي لأخرجتها، كل ذلك من شدة خوفه وتقواه وتورعه عن الحرام. أما خوف عمر رضي الله عنه وشدة تقواه فعجبٌ من العجب، سمع قارئاً يقرأ قولَه تعالى: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) [الطور: 13] فمرض ثلاثاً يعودهُ الناس، بل إنه قرأ مرةً قوله تعالى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات: 24] فمرض شهراً يعودُه الناسُ مريضاً، وأما عليٌ رضي الله عنه فكان يقبض لحيته في ظلمة الليل ويقول: يا دنيا غُري غيري أإليَّ تزينتِ أم إليَّ تشوقتِ، طلقتك ثلاثاً لا رجعةَ فيهن، زادُك قليل وعمرُك قصير ، وخرج ابن مسعود مرة في جماعة فقال لهم ألكم حاجة؟! قالوا: لا؛ ولكن حبُ المسير معك! قال: اذهبوا فإنه ذلٌ للتابع، وفتنةٌ للمتبوع. إذن فيوم عُمرت قلوب السلف بالتقوى، جمعهم اللهُ بعد فرقة، وأعزهم بعد ذلة، وفُتحت لهم البلاد ومُصرت لهم الأمصار كل ذلك تحقيقاً لموعود الله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. فليكن هذا الشهر بداية للباس التقوى؛ ولباس التقوى خير لباس لو كانوا يعلمون (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54-55]. اللهم بلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، وغض البصر وحفظ اللسان، واجعله يا ربنا شاهداً لنا وليس شاهداً علينا يا كريم... أمين. [email protected]