قليلة هي الأطروحات العلمية التي تتحدث عن الأوقاف على مر العصور نظراً الى اعتبارات عدة تحول دون المضي في تلك الدراسات، ولكن الدكتورة أماني فودة تسلحت أكاديمياً واستطاعت الدخول الى معترك دراسات الأوقاف في عصر محمد علي الحافل بأوقاف اسلامية ومسيحية ويهودية عدة. وقد تركزت هذه الأطروحة حول معالجة موضوع الأوقاف في مصر في عصر محمد علي 1805 - 1848 الذي كان له اهتمام خاص بالأوقاف ما جعله يسن لها قوانين خاصة، ويضع لها من الأسس والنظم ما يضمن بقائها ويساعد على نموها كي يصل الحق الى مستحقيه. وعليه فقد قامت الباحثة بتقسيم العمل الى مقدمة وتمهيد وأربعة فصول وخاتمة، تناولت خلالها أوضاع الأوقاف في مصر حتى تولي الباشا محمد علي الحكم وأهم الخطوات والتنظيمات التي وضعها لسلامة الأوقاف والحفاظ عليها. كما ألحقت بالدراسة مجموعة من الملاحق الوثائقية، وأشارت الى أماكن تواجدها وأوضحت أهميتها بالنسبة الى موضوع البحث. وتأتي على رأسها وثائق محكمة الاسكندرية الشرعية المحفوظة الآن في دار الوثائق القومية في القاهرة. وهي عبارة عن سجلات متعددة مسجلة فيها صور عن أهم قضايا المجتمع المصري، ومن أبرز هذه القضايا تلك الخاصة بالأوقاف ما ساعدها في استخلاص صورة واضحة عن أحوال الأوقاف في هذه الفترة وأهم المشكلات التي تتعرض لها. كما أنها تعطي عرضاً تفصيلياً حول أحكام القضاة في هذه القضايا. وتوضح دور محمد علي في اصدار هذه الأحكام وحرصه على تنفيذها. ثم هناك أرشيف المحاكم الشرعية الأخرى الموجودة في أرشيف الشهر العقاري وبعضها محفوظ في وزارة الأوقاف في القاهرة في دفاتر منظمة ومفهرسة تاريخياً. وهي الآن بصدد وضعها على الميكروفيلم. ثم هناك محافظ الأبحاث والموجودة في دار الوثائق القومية في القاهرة. وهي تحتوي على الكثير من المحافظ وكل منها يتناول موضوعاً معيناً كالأزياء والفلاح المصري والتعليم والموظفين والدواوين والسكك الحديد والمرتبات وغيرها. وفيها أيضاً عدد من المحافظ الخاصة بموضوع البحث. هذا بالإضافة الى سجلات ديوان المعية السنية وديوان المعية التركية المحفوظة في دار الوثائق القومية وهي تحتوي على الأوامر التي كان يصدرها محمد علي الى القائمين على الأوقاف لوضع حد لأي نزاع قائم أو لتطبيق أي نظام يراه في مصلحة الوقف. وأيضاً هناك الحجج الخاصة بالأوقاف والموجودة في دار الوثائق القومية وأغلبها في أرشيف وزارة الأوقاف. وقد أمدت هذه الحجج البحث بصورة واضحة حول شروط الوقف والواقف والمرتبات التي يحددها الواقف للقائمين على وقفه، وتوضح أيضاً كيفية اختياره لهؤلاء الموظفين، كما أنها توضح نوعية الأماكن الموقوفة وجهات الوقف والمستحقين لريع الوقف. وقد استقامت أيضاً في محافظ الوقائع المصرية المحفوظة في دار الوثائق القومية. وهي تحتوي على الكثير من السجلات التي تتناول موضوعات مختلفة ويوجد فيها ما يختص بأحوال الأوقاف وبخاصة الأوقاف على الأزهر الشريف. ومن أهم الأرشيفات التي اعتمدت عليها في الفصل الثالث الخاص بأوقاف أهل الذمة في مصر كان أرشيف كنيسة الابنارويس في القاهرة. وفيه أطلعت على عدد كبير من الوثائق والمصادر الخاصة بأوقاف المسيحيين في مصر في فترة حكم محمد علي وفيها كم كبير من المراجع ومن المجامع الكنسية التي تتناول موضوع الأوقاف وتوضح نظرة المسيحية اليه وكيفية تنظيمه. هذا بالاضافة الى المصادر والمراجع والدوريات والرسائل الجامعية والتي أمدت الباحثة بالمعلومات حول الموضوع وأعقبت المقدمة بتمهيد تناولت فيه وضع تفسير لمعنى كلمة وقف كما جاءت في الشريعة الاسلامية وأيضاً مضمونها في اللغة العربية موضحة وضع الأوقاف في مصر قبل عصر محمد علي منذ بداية ظهور الأوقاف مروراً بعهد الأيوبيين والمماليك وأبرزت موقف السلطان سليم الأول ازاء الأوقاف عقب دخوله مصر وكيفية تصرف العثمانيين تجاه الأوقاف بعد ذلك. ثم أوضحت موقف الفرنسيين تجاه الأوقاف أثناء حملتهم على مصر بين عامي 1798 و 1801. أما الفصل الأول من الرسالة فقد درست فيه موقف محمد علي ازاء أراضي الأوقاف في مصر حين تولى الحكم عام 1805م وتتبعت معاملته للقوى الموجودة في مصر آنذاك والمتمثلة في مالكي الأراضي الزراعية بوجه عام والقائمين على أراضي الأوقاف بوجه خاص. كما عرضت الخطوات التي قام بها محمد علي في طريق سيطرته على الأوقاف والتعويضات التي قدمها لأصحابها والقائمين عليها. ثم أوضحت أنواع الملكيات التي استحدثها محمد علي أراضي الأوقاف. واستعرضت بعض الأراضي التي أوقفها على نفسه لمصلحة أولاده وذريته من بعده. أما الفصل الثاني من الرسالة فقد خصصته لدراسة إدارة الأوقاف في مصر في عهد محمد علي وعرضت فيه صورة تفصيلية توضح الهيكل الوظيفي للأوقاف، بداية بناظر الوقف وطريقة تعيينه وتعيين معاونيه مع توضيح مدى تدخل محمد علي في أعمال هذا الناظر من بداية تعيينه الى مباشرة تقاريره السنوية. ثم اتجهت لتوضيح أعمال باقي الموظفين القائمين على أعمال الوقف ودور كل منهم وأهميته بالنسبة الى الوقف. ثم انتقلت لاعطاء صورة تفصيلية حول حياة هؤلاء الموظفين من حيث المرتب والسكن والطعام والاجازة وغيرها. وناقشت في الفصل الثالث موقف محمد علي ازاء أوقاف أهل الذمة في مصر سواء اليهود أو المسيحيون وقدمت عرضاً مفصلاً حول طوائفهم ومكانتهم في المجتمع المصري في هذه الفترة. فضلاً عن توضيح أسلوب محمد علي في معاملتهم. كما برزت شروط أوقاف أهل الذمة في مصر وأوضحت مدى تعاونهم مع محمد علي في تنظيماته لأوقافهم. كما أعطيت بعض الأمثلة لأوقاف اليهود والمسيحيين في عصره. وأبرزت صورة تكشف عن علاقة الذميين بالمسلمين في العمليات الاقتصادية الخاصة بالأوقاف. وعالجت في الفصل الرابع والأخير من الرسالة الدور الذي لعبته الأوقاف في المجتمع المصري في فترة حكم محمد علي سواء أكان هذا الدور اجتماعياً من حيث رعاية الأيتام والفقراء والعتقاء والنساء مروراً بالاهتمام بالمساجد والتكايا والزوايا والأضرحة والمدارس والكتاتيب أم اقتصادياً بتناول المعاملات المالية للأوقاف كالايجار والاحكام والابدال، كما أوضحت في نهاية الفصل أهمية الأوقاف المصرية بالنسبة الى الجامع الأزهر والحرمين الشريفين والقدس الشريف. وأبرزت مدى استفادة مدينة قولة مسقط رأس محمد علي بالأوقاف المصرية التي كان لها دور مهم في عمارة تلك المدينة. أما خاتمة الرسالة فقد خصصتها لتقديم تقويم شامل للدور الذي قام به محمد علي تجاه الأوقاف في مصر في عصره. وتوصلت الى أن عدم الغاء محمد علي لنظام الأوقاف في مصر إنما يعبر عن تقديره لدور الأوقاف كنظام ديني له وضعه الخاص لدى المسلمين وغير المسلمين وله مكانته المميزة في مجتمعهم، بل إن محمد علي أظهر احترامه لنظام الأوقاف من خلال اهتمامه الرائد بعمارة الأوقاف القائمة، وإقامة أوقاف جديدة له ولأبنائه وأسرته من بعده، يؤكد أن سيطرته على الأوقاف كانت في مصلحة الوقف نفسه ومصلحة مستحقيه. كما كان حماية للوقف من مستغليه والقائمين عليه. وقد حقق هذا الموقف من قبل محمد علي الاستفادة المباشرة من الوقف لمصلحة الدولة والمشروعات الداخلية الاصلاحية والخارجية في عهده والتي كان من شأنها أن تعود بالنفع على مصر داخلياً وخارجياً آنذاك.