ينظر الكثيرون بقلق - وأنا منهم - إلى مستقبل «الثورات العربية» الأخيرة وذلك من واقع الحرص عليها والخوف من إجهاضها أو العبث بها خصوصاً أن المشهد العربي الراهن يدعو إلى القلق بجميع المعايير، فقد أسقطت الثورات نظماً أو هي في طريقها إلى ذلك، ولكنها لم تقم بناءً جديداً ولم تتمكن من تحديد رؤية مستقبلية واضحة وانصرف معظمها الى مشاعر انتقامية مرحلية مع الاستغراق في تصفية الحسابات وتوجيه الاتهامات وتصنيف الناس وتقسيم الساحة السياسية من دون سند واضح أو فهم دقيق للاشتباك المعقد بين الأطراف المختلفة في الحياة السياسية السابقة. إنهم يعبثون بالمستقبل في غمار تحطيمهم للماضي الذي لا ننكر استبداده وفساده، فليست الثورات عملية هدم لنظام قديم فقط ولكنها تتجاوز ذلك لتكون تشييداً لمستقبلٍ تسعى إليه الشعوب وتتطلع نحوه الأمم، أما لماذا أقول ذلك في هذه المقدمة التي لا تخلو من بعض مظاهر القلق والإحباط فإنني أبسط النقاط التالية: أولاً: إن التخلف السياسي هو نتيجة حتمية للتخلف العلمي والبعد عن روح العصر، فأنا ممن يظنون مثلاً أن ضعف النظام التعليمي في مصر وتدهوره هو المسؤول الأول عن تنامي سلطة الاستبداد وشيوع مظاهر الفساد. فالتعليم هو بوابة العصر والمدخل الوحيد الى النهضة والحداثة والتقدم. ثانياً: إن دور المؤسسة العسكرية في الثورتين التونسية والمصرية مشرّف بل رائع، ولكن ذلك لا ينتقص أبداً من حقيقة مؤداها أن هذه الثورات قد استنزفت بالضرورة قسطاً كبيراً من المخزون الاستراتيجي لدى تلك الجيوش، سواء اتصل ذلك بساعات التدريب أو طبيعة انتشار القوات وتوزيعها، إذ يجب ألا ننسى أن لتلك الجيوش مهاماً أخرى أكثر أهمية وأشد صعوبة، فالخارج يرقب الداخل بنظراتٍ غير بريئة لا تخلو من أطماعٍ ولا تبرأ من مخططات. ثالثاً: الأصل في العمل الثوري أنه يمهد لنقلة نوعية في الاتجاه الصحيح ولا يمكن أن يكون أبداً مجرد محاكمة للماضي من دون طرق أبواب المستقبل الذي نسعى إليه ونتحمس له، والفارق بين الانقلاب العسكري أو التمرد الشعبي وبين الثورة الحقيقية هو ما تحمله الأخيرة معها من مضمون اجتماعي شامل ورؤية وطنية كاملة، ولا يمكن أن تتحول الثورات إلى عملية ميكانيكية للتغيير المؤسسي من دون وجود مضمون فلسفي. رابعاً: لا بد من أن أعترف بتشابه الأوضاع بين دول الثورات العربية وإذا كنا نحمل معها آمالاً كبيرة للمستقبل إلا أن الانقسام الذي نشهده على الساحة الوطنية في بعض تلك الدول لا بد أن يدعو إلى القلق وأن يثير المخاوف في ظل حالة من السيولة السياسية إذا جاز التعبير، فقد اختلطت الأوراق وأصيب الكثيرون بحالة من عمى الألوان وانقلبت الموازين في «بورصة البشر» وأصبحنا أمام مخاطر حقيقية من مستقبل غامض واختلافات عميقة في الرأي وتباين في الأفكار بل وتضارب في المصالح. خامساً: إن فقه الأولويات يبدو غائباً عن الساحة الثورية في الجمهوريات العربية، ولعل نموذج الجدل المستحكم في مصر بين أولوية وضع الدستور أو أولوية إجراء الانتخابات هو نموذج حي لذلك، فالكل متمسكٌ برأيه والبعض يتصور أنه يحتكر «صكوك الثورة» ويحوز وحده الوطنية، لذلك يبدو مدفوعاً بالهجوم القوي على كل الرموز من دون تفرقةٍ أو تمييز، وهو ما سيجعل المناخ العام للعمل السياسي والبيئة الوطنية المحيطة به مضطرباً غير مستقر لسنوات طويلة قادمة. سادساً: دعنا نعترف أن الشباب العربي هو أكثر قطاعات المجتمع رفضاً لما يجري وتطلعاً لما هو قادم، ويبدو ذلك من مجمل الحركات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة، فالعنصر الغالب فيها هو الشباب وهو أمر طبيعي في الثورات الشعبية للعالم المعاصر، ويشير ذلك إلى صراع مكتوم بين الأجيال، بين من يحاولون الحفاظ على الأوضاع القائمة وبين من يرفضونها ويتطلعون الى مجتمع أفضل يعيشون فيه ويتعاملون معه، وإذا كان التاريخ حافلاً بصراع الطبقات وربما «صراع الحضارات» أيضاً، إلا أن «صراع الأجيال» يبدو هو سمة العصر وشخصيته المتميزة، فالشباب هو الذي يملك إرادة التغيير وهو الذي يريد أن يمسك بناصية المستقبل. سابعاً: إن قيام الثورات الشعبية هو محاولة لتشييد بنيان جديد على أطلال نظمٍ هرمت وسلطات شاخت حتى أصبحت رؤية المستقبل مرتبطة برفض حاسم لكل المعطيات القائمة مع الرغبة في الدخول إلى كل المستجدات القادمة. لقد أصبحنا أمام عصرٍ جديد بينما سبقه عصر بدأ يطوي صفحاته ويودع كثيراً من النظم السائدة في الجمهوريات العربية التي ابتليت بداء «التوريث» وحمى «الفساد» إلى جانب مظاهر «الاستبداد» كافة. ثامناً: إن المناخ الدولي العام يشير بوضوح إلى تحولات ملحوظة في نوعية التعليم وعالمية الثقافة إلى جانب التقدم المذهل في تقنيات دنيا المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة التي جعلتنا أمام مشهد مختلف يستحيل فيه إخفاء خبر أو دفن معلومة أو التستر على موقف! إننا نعيش عالماً جديداً يوحي كل ما فيه بأننا على أعتاب مرحلة مفصلية في تاريخ الإنسانية. تاسعاً: يجب أن نعترف هنا أن الثورة تتميز بانتقال العدوى من بلدٍ إلى آخر، فليس لدي شك في أن ثورة تونس قد ألهمت المصريين ودفعت بهم إلى «ميدان التحرير» في مشهد غير مسبوق في تاريخ البلاد، ولا يمكن تفسير التزامن بين الانتفاضات العربية الأخيرة من دون وعيٍ بطبيعة العلاقة بينها أو انتقال عدوى الثورة منها وإليها. إن الثورات يحفز بعضها البعض الآخر ويبدو فيها النموذج الناجح مصدراً لالهام الآخرين مع إعطائهم دفعة يشعرون معها بأن ما كان صعباً أصبح ممكناً وما كان شعارات أضحى حقيقة. عاشراً: يثور تساؤل يطرح نفسه بإلحاح حول موقف إسرائيل مما يجري على الساحة العربية، وهناك مدرستان في التحليل: مدرسة ترى أن الصحوة العربية ويقظة شعوب المنطقة تبدو في معظمها معادية للدولة العبرية ومؤكدة دعم الجانب العربي في الصراع مع إسرائيل إلى جانب التخلص من بعض النظم الصديقة للكيان الصهيوني، بينما ترى مدرسة أخرى في التحليل غير ذلك، إذ يعتقد أصحابها أن إسرائيل ترحب بما جرى في بعض الدول العربية لأن الدخول في مرحلة أكثر ديموقراطية وأشد تحرراً للمواطن العربي سوف تدفع بالضرورة الى حالة من الترشيد للنظم القائمة بحيث تجعلها أكثر واقعية وأقل ممالأة للشارع المتشدد وقد تكون النتيجة النهائية في صالح تسوية تقبلها إسرائيل. هذه ملاحظات قصدنا منها أن نوضح طبيعة الآثار الناجمة عن الثورات العربية وتحديد دورها كعملية انتقال الى مرحلة أكثر تقدماً، وأتاح لنا ذلك أن نناقش هوية هذه الثورات وهل هي في مصلحة العالم العربي بمحصلتها النهائية وهل هي نقلة نوعية حقيقية تدفع بالمواطن العربي إلى الأمام، أم أنها مجرد انتفاضات غير محسوبة لا تعطي دلالة واضحة على مفهوم النهضة ولا تمثل قراءةً رشيدة للمستقبل؟ ومع ذلك كله فإننا نظن أن القضاء على نظم الاستبداد والفساد هو تطهير للبلاد والعباد وتغيير إيجابي إلى الأفضل، فقد بلغت بعض الأنظمة التي رحلت درجة عالية من الترهل والتدهور والانحطاط إلى جانب مظاهر القمع والكبت والقهر. مرحباً بالثورات العربية على أن تكون بداية لعصر جديد وعالم مختلف ومستقبل أكثر إشراقاً للوطن والمواطنين. * كاتب مصري