ليس حدثاً بسيطاً ولا عاديّاً أن تتعرّض السفارتان الأميركيّة والفرنسيّة في دمشق لهجوم يشنّه «مواطنون غاضبون». و»غضب المواطنين» في سوريّة أمر مبرمج سلفاً، كما هو معروف، مثله مثل تعبيرهم عن الفرح والسعادة والمبايعة. كذلك ليس الحدثان اللذان أحاطا بالهجومين عاديّين: ذاك الذي سبقه ممثّلاً بزيارة السفيرين الأميركيّ والفرنسيّ مدينة حماه، وذاك الذي تلاه ممثّلاً بإعلان وزيرة الخارجيّة الأميركيّة هيلاري كلينتون أنّ الرئيس بشّار الأسد «فقد شرعيّته»، وصولاً إلى الإدانة التي أصدرها مجلس الأمن. مصدر هذا التقدير أنّ النظام السوريّ، منذ قيامه، لم يخطُ خطوة واحدة إلاّ بعد احتساب ردود الفعل الأميركيّة. يصحّ هذا منذ الدخول إلى لبنان في 1976، وهي الحساسيّة التي بلغت ذروتها مع المشاركة السوريّة في التحالف الدوليّ لتحرير الكويت إبّان 1990-1991. إلى هذا كانت تلك المعادلة تفترض أنّ الداخل السوريّ هو ما لا يخصّ أحداً غير النظام السوريّ نفسه، ومسألة السلام السوريّ – الإسرائيليّ كانت جزءاً من هذا الداخل لاتّصالها المباشر والعضويّ بطبيعة النظام وباستقراره. وما تعنيه التحوّلات الأخيرة هو أنّ ما كان ينطبق على العلاقات بالخارج غدا يصحّ على الداخل أيضاً. فبدلاً من دور سوريّة الإقليميّ بتنا أمام مسألة سوريّة للدول الكبرى رأيها فيها وموقفها منها. وهذا بمثابة تكرار موسّع لما سبق أن حصل مع الأتراك الذين وجدوا أنفسهم، بين ليلة وضحاها، في قلب المسألة السوريّة. أمّا واشنطن، من جهتها، فهي أيضاً كانت تحسب للنظام السوريّ حساباً خاصّاً. يصحّ هذا في الإدارات جميعاً باستثناء بوش الابن منذ حرب العراق وخصوصاً منذ اغتيال رفيق الحريري في 2005. ذاك أنّ القناعة العامّة كان مؤدّاها أنّ الدور السوريّ القويّ مانع لفوضى على الطريقة اليوغوسلافيّة من قبل والعراقيّة من بعد. وهي نظريّة كان للإسرائيليّين السهم الأكبر فيها لاعتبارهم أنّهم سيكونون في طليعة من يتأثّر بفوضى كهذه. أمّا الداخل السوريّ فأمره متروك للنظام القائم، لا تتدخّل فيه الولايات المتّحدة (وفرنسا) إلاّ في حدود تقاطعه مع الحيّز الخارجيّ. والحال أنّ التقاء التقديرين، الأميركيّ حيال سوريّة والسوريّ حيال أميركا، هو ما أنجب نظريّة الاستقرار الذي يتأتّى عن متانة الدور الدمشقيّ، والذي قضى بغضّ النظر لسنوات مديدة عن لبنان، كما أملى صياغات من نوع تقرير بيكر – هاملتون مفادها تلطيف ردّ الفعل الأميركيّ على السياسات السوريّة في العراق وفلسطين. هذا كلّه انتهى اليوم على ما يبدو. ونهايته تفيد أنّ الطرفين حزما أمريهما أو كادا: واشنطن وباريس شرعتا تتعاملان مع الداخل السوريّ كأنّه مشاع مفتوح، ودمشق شرعت تتعامل مع العاصمتين الغربيّتين على أساس اللاعودة. فإذا صحّ تقدير كهذا أمكن القول إنّ شعوراً باليأس بدأ يتسلّل إلى قلب النظام ورأسه. وفي هذا اليأس ما يوحي بعودة اضطراريّة إلى المنطلقات النظريّة ل «البعث»، السابقة على الديبلوماسيّة والعلاقات الدوليّة. وهو بالطبع ما كان الحكّام الدمشقيّون قد وضعوه على الرفّ منذ عقود.