للمرة الأولى تفتح البندقية أبوابها أمام فلسطين كي تشارك في معرض البينالي الدولي الثالث والخمسين لعام 2009، الذي عقد تحت عنوان «صناعة وعوالم»، مما شكل حدثاً بارزاً على مستوى المشاركات العربية التي تمثلت هذا العام بدولتين هما مصر والإمارات العربية المتحدة. وقد أفردت إدارة البينالي لأعمال الفنانين الفلسطينيين جناحاً خاصاً، في ديرٍ كان يعود قديماً الى الراهبات الدومينيكان، قبل أن يتحول المبنى والكنيسة المجاورة له، بعد عام 1807 إلى الإدارة المدنية المحلية. استطاع المعرض الذي نظمته سلوى المقدادي بالتعاون مع بعض الفعاليات في ثلاث قارات وثماني مدن حول العالم، ان يتجاوز في مراحله التحضيرية تحديات إنتاجه وتمويله التي تمت بفضل دعم بعض الشركات والمؤسسات العربية، غير أن المعضلة في نظر المفوض الرسمي للبينالي فيتوريو أورباني، كانت في كيفية وضع فلسطين خارج التمثيل القومي الوطني من الجانب الايطالي، نظراً إلى أن فلسطين (الى جانب كتالونا ووايلز والتيبت واسكتلندا وكردستان) بلد لم تعترف به رسمياً الدولة الايطالية كبلد مستقل سياسياً، مما حتم وضع استراتيجية ثقافية اقتضت إفراد جناح لتمثيل بلدٍ بروحية مبتكرة، في عنوان «فلسطين بواسطة البندقية». اتخذ معرض الفن الفلسطيني إطاراً مفاهيمياً وأدائياً بالصوت والصورة والنص المكتوب والرسائل الاعتراضية، في استيعابه معاناة الشعب الفلسطيني، إزاء التهميش وحال الحصار وسياسة الفصل الاسرائيلية، في ظل الاستخدام غير المتوازن للصورة الإعلامية التي تبسط الوقائع وتغير مسراها في نقل وجوه من دون أسماء وشعب من دون صوت. وفي هذا المجال تقول سلوى المقدادي، إن الفنانين الفلسطينيين (المقيمين وفي الشتات) نجحوا خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث فشل السياسيون، في نقل صورة الوضع الفلسطيني الى جمهور واسع في أعمق وجودها. في معرض «فلسطين بواسطة البندقية»، قدم الفنان تيسير البطنيجي مشروعاً أدائياً بعنوان «حنّون» (الخشخاش في اللهجة الفلسطينية) وهو يستند إلى قشارة قلم رصاص أحمر منثورة على الأرض توحي بوجود حقل خشخاش، ما هو إلا منظر متخيل يبصره المرء كمنام من موقع امتياز لا يستطيع العبور اليه، مما يثير انطباعات شخصية حول مسألة الذاكرة والامحاء. ولطالما ارتبط الخشخاش في الوعي والأدب الفلسطيني بذكرى المقاتلين في سبيل الحرية، وعلى رغم هذه الرمزية الظاهرة بخاصة في فعل بري قلم الرصاص المتكرر، يتصل الحنّون - كما يقول الفنان - بذاكرة الطفولة في المدرسة، حين كان يهرب من القيام بواجباته المدرسية فيبدد الوقت في بري أقلام الرصاص بذريعة أنها غير مدببة كفاية. وعند مفترق الطرق القائم بين فنّي التجهيز والفيديو، قدم شادي حبيب الله، رسوماً متحركة على 4 قنوات فيديو، في عنوان «حسناً اضرب اضرب لكن لا تهرب» وهو يرتكز على الفورية والمباشرة في نقل معلومات تتعلق بمنطقة محددة من العالم، ذات خاصية بصرية، وأبعاد توثيقية. «عوارض رام الله» عنوان لعمل تجهيزي لساندي هلال وأليساندرو بيتي، جاء ثمرة نقاشات غير رسمية هدفت على نحو انفعالي إلى استكشاف او تبيان المدى الراهن والمحدد للسلطة الفلسطينية وللتناقضات التي تنزلها هذه الأخيرة في مدينة رام الله. العوارض المذكورة يمكن اعتبارها تأثيرات جانبية للحيّز والنظام الاجتماعيين الجديدين الناشئين بعد انهيار مسار السلام في أوسلو. وهي تظهر على شكل «هلوسات الحالة السوية» الوهم المتأتي من فكرة تعايش الاحتلال والحرية، بما يحيل فكرة قيام دولة فلسطينية ذات سيادة إلى وهم خالص. لذا، فالسؤال هو هل عوارض رام الله هي هدف لمسار السلام أم أنها نتيجة لفشله؟ أما مشروع إملي جاسر ستازيوني 2008- 2009، أي «محطات»، فهو عبارة عن مساهمة ستعرض عند كل واحدة من محطات فابوريتو على خط رقم 1. يبدأ العمل عند محطة ليدو، ثم عبر القناة الكبرى لينتهي في ساحة روما. تقترح إملي أن تُعد ترجمة عربية لكل أسماء محطات فابوريتو عبر هذا المسار لتوضع إلى جانب الأسماء الايطالية وتحقق خط مواصلات ثنائي اللغة في مدينة البندقية. وميزة خط فابوريتو رقم 1، انه يمر بكل محطات القناة الكبرى حيث يرى المرء على ضفتي القناة شواهد معمارية حية لقرون من التبادل الثقافي بين مدينة البندقية والعالم العربي. فالأنماط التي وصلت البندقية من العالم العربي تظهر في عمارات عدة كقصر «دوغ» و «توري ديل اورولوغيو» وبرج الأجراس وبازيليك «سان بيترو كاستيللو» وسواها. كما تظهر في تصاميم المعماريين وفنييّ الفسيفساء الذين عملوا في بناء بازيليك القديس مرقص. إذ إن آلاف المصنوعات والبضائع العربية وجدت طريقها عبر سان ماركو ورياليتو، كما ان علوم العرب وصناعاتهم (نسيج وتعدين وصناعة الزجاج) وصلت إلى أوروبا عبر مدينة البندقية. لذا، فإن وجود الترجمة العربية للمواقع السياحية هو موقف ضد التغييب للغة العربية التي تحتل المرتبة الخامسة بين اللغات من حيث الانتشار. يقدم عمل جواد المالحي «بيت 197»، مشاهد بانورامية لمخيم شعفاط للاجئين في القدس، مأخوذة من المستعمرات الإسرائيلية المجاورة، فضلاً عن صور ملتقطة من داخل المخيم، من النوافذ والسطوح والأزقة الضيقة. ويركز على استكشاف مسألة «الهامشية» عبر عرض وجهات نظر ومواقع مختلفة لمشهد المخيم بجغرافيته وعماراته وناسه. هكذا يستكشف المالحي من خلال الصور الفوتوغرافية الطبيعة التراكمية والفوضوية لفضاء المخيم، التي تنقل تجارب رهاب الاحتجاز والانحصار داخل بيئة مغلقة. يقول المالحي: «بوضعي الكاميرا في مواقع المراقبة قمتُ بتوثيق كيفية تفتح الزمن وانقضائه، نهاراً وليلاً بالنسبة الى عمال محطة وقود تقع على طرف المخيم، حيث يعيش الشبان في هامش هوامش المخيم في حاوية مرفأ تضم مستوعباً كبيراً للوقود التي لم تعد الآن موجودة بعدما أُحرقت. في مراجعة راديكالية لمعارض البينالي التي تحولت في اغلب الأحيان الى ميادين لعروض تجهيزية محمومة تعكس ديكتاتورية سوق الفن العالمي، يقترح خليل رباح فكرة «بينالي رواق 2009، جغرافيا: خمسون قرية»، وهو رواق لا يضم أياً من المعارض المركزية الضخمة، بل عوضاً عن ذلك يقدم اعمالاً ترتبط بمواقع وبأنشطة ثقافية تقام في خمسين قرية فلسطينية. معرض «فلسطين بواسطة البندقية»، ينطوي على أعمال أقرب ما تكون إلى الفعل السياسي والمقاومة الرمزية التي تتخذ من الفن وسيلة محادثة وحوار ثقافي، ومنطلقاً نحو الحرية.