تحفل أروقة دور المسنين في السعودية بالكثير من القصص المأساوية. يستحوذ فيها الأبناء عادة على بريق البطولة، في حين يكتفي الوالدان بأدوار الضحية المغلوبة على أمرها. وما بين انطلاقة شواهد عقوق الوالدين من خلف تلك الأبواب الموصدة، واشتعال فتيل جحود الأبناء، مساحات من الرماد المتناثر داخل قلوب «حرقت» داخل تلك الدور «التعيسة». وكثيراً ما يؤدي اختلاف وجهات النظر بين أبي سالم ذي ال 60 عاماً وزوجته الخمسينية إلى تعالي أصواتهما داخل إحدى دور رعاية المسنين في المدينةالمنورة، لكن وبعد سلسلة من المد والجزر تصمت الزوجة وينخرط أبو سالم في موجة من التفكير بعد أن تملكته الحيرة!. وعادة، ما يختلف المسن وزوجته حول ردة فعلهما تجاه ابنهما الوحيد «سالم» فالوالد ينوي مقاضاته شرعاً بتهمة العقوق، بينما ترفض الزوج أن تقف في قاعات القضاء لتحاجج ابنها وتطالب بإنزال العقوبات بحقه. وبحسرة تجلت في صوته قال المسن الستيني أبو سالم ل «الحياة»: «على رغم أن ابني الوحيد غدر بي ووالدته، وقطع وصلنا، وتمادى في عقوقنا، وهزأ من وظيفتي السابقة كحارس أمن، وأكد أني نقطة سوداء في حياته، ومدعاة لسخرية أصدقائه منه»، إلا أنني لا زلت متردداً في مقاضاته شرعاً بتهمة العقوق، وأخجل حقيقة من شكواه للقاضي، لكني غاضب جداً منه، وزوجتي مغلوبة على أمرها تطالبني بالدعاء له والتنازل عن حقوقنا، على رغم أن أفعاله أثقلت كاهلها، ودائماً ما تسهر لياليها باكية فراق ابنها العاق، وراثية حالنا». وفي مشهد مأساوي آخر، لم تجد «أم محمد» مسكناً يؤويها بعد هجر ابنها الوحيد لها. وأجبرها سوء معاملة ابنها على اللجوء إلى أحد الأربطة الخيرية. وقالت الأم المهجورة ل «الحياة»: «سخّرت حياتي لأجله، وحولت قارعة الطريق والأرصفة إلى مباسط متنقلة قاومت فيها حرارة الشمس تارة وفي شدة البرد في أخرى والكثير من المضايقات من أجل أن أؤمن له قوت يومه وجميع طلباته». وبعد أن خنقتها العبرة، زادت «بعد أن تخرج ابني في الجامعة وحصل على وظيفة حكومية، فوجئت بتهربه من مسؤولياته تجاهي، وتهكمه من مهنتي، قبل أن يطالبني ببيع البيت الشعبي الذي ورّثنا إياه والده المتوفى بحجة رغبته في تجهيز نفسه للزواج فوافقت على الفور، وانتقلنا إلى شقة مستأجرة». وكشفت أن ابنها طالبها بعد فترة بالخروج من الشقة والتوجه إلى دار المسنين بحجة «ضيقها» وكي يأخذ راحته مع «شريكة المستقبل». واليوم، تستجدي «أم محمد» أهل الخير لتؤمن قوت يومها، بعد أن تجرد ابنها من كل معاني الإنسانية. ولم يرحم كبر سنها أو يرأف بمرضها. وعلى خط مواز، أكد المفكر الإسلامي عبدالقادر الردادي أن الدين الإسلامي أوصى ببر الوالدين وطاعتهما، ورفع من قيمة العمل بغض النظر عن طبيعته. وأشار إلى أن «من يتبرأ من والديه أو يخجل من عملهما ارتكب إثماً عظيماً، ولن يبارك الله في رزقه أو عمله». من جهة ثانية، أشارت الاختصاصية الاجتماعية عفاف صبري إلى أن شواهد كثيرة «انتشرت» في المجتمع السعودي تؤكد أن الخجل من مهنة الوالدين لا يعد ظاهرة جديدة، بدليل أن «الكثيرين يتجنبون الحديث عن والديهم ويتمنعون عن زيارتهم لأسباب غير منطقية تتعلق بتواضع مهنهم وتدني مستوياتهم المعيشية». ورفضت تعميم هذه الفئة على كافة أطياف المجتمع الذي يحوي «أوجهاً مشرفة في رد الجميل للوالدين والبر بهما تستدعي الفخر». عازية إياها إلى التربية السليمة وقلة العقد النفسية والالتزام بالتعاليم الدينية. وعزت تنامي الأفعال المشينة إلى التفكك الأسري «على رغم خلو المجتمع السعودي من إحصاءات رسمية في هذا المجال» إلا أن عوامل مثل «الألم والظلم والقهر وصرخات الآباء والأمهات في غرف دور المسنين والأربطة الخيرية والمحاكم الشرعية» تعد دليلاً على وجوب تواصل الدراسات والبحوث لإيجاد حلول جذرية توئد هذه «الظاهرة» في «مهدها».