«مدينة الصور» رواية لؤي حمزة عباس (الدار العربية للعلوم - ناشرون ودار أزمنة) هي رواية مدينة، رواية وجوه ورواية صور. صاحب هذه الرواية لؤي حمزة عباس هوقاص عراقي تركَت فيه مدينته البصرة عظيمَ الأثر، فهوالمولود في منطقة المعقل نشأ فيها وارتاد مدارسها، واختارها مسرحاً لأحداث روايته هذه، فتظهر، من خلال سرده، إلفته مع الأماكن والبيوت والأسماء. يجد القارئ نفسه أمام ثلاث صور مكدسة يحملها الغلاف لا يظهر منها سوى تلك التي في الأمام: إنها صورة ولدين رثَي الهيئة، أحدهما عابس مقطب الجبين حافي القدمين يقف وكأنه على أهبة الفرار، والآخر أكبر منه سناً واقف باستلشاء وعنجهية يستفز المصور بل يستفز... العالم. ويمكن التخمين أن أحد هذين الولدين هوالراوي والآخر هوياسين صديق طفولته ومشاركه في هواية جمع الصور. خلف هذين الولدين ولد ثالث يقترب راكضاً من جهة بيوت متلاصقة، متشابهة يخيم عليها اللون الرمادي: لون الفقر والملل. وفي الجهة المعاكسة للمنازل ولد رابع يلعب على دراجته الهوائية لا يظهر منه سوى جزء صغير من وجهه. تظهر الصور قديمةً مهترئة، ويظهر كذلك أنها موضوعة في موضعها هذا لغاية في جمعها والعودة إليها. قبل أن يدخل القارئ جوالرواية تطالعه جملتان كل منهما على صفحة، كل منهما تغلف بكلماتها ناحيةً من نواحي رواية عباس. الجملة الأولى مأخوذة من ديوان الشاعر العراقي سركون بولص «الوصول إلى مدينة أين»والثانية من رواية» موبي ديك» للروائي ألاميركي هرمان ملفل. ول «موبي ديك» أهميتها في الرواية ولا يُفتضح لغزها إلا في الصفحات الأخيرة. «شيء ما يتغير. شيء لا يكاد يُرى. لكنه يُحَسُ على الوجوه بملامحها الموهنة مثل أثر جرح قديم يندمل». هكذا تنطلق الرواية التي تخبر حكاية مدينة، وتنصهر في شوارعها وأزقتها وناسها وتخبر عن ثناياها واعوجاجاتها. إنها رواية مدينة ولكن بأحداثها السياسية والاجتماعية والدينية... «مدينة الصور» قصة طفولة حالمة وشباب مغرَم ووطن متخبط في حروبه. هي قصة صُوَر تجمَعَت وحاولَت أن تخلق عالماً آخر: عالماً كاذباً. نعم، إنه عالم كاذب، هذا ما لا ينفك يردده الراوي الصغير على مدار نصه: «الصور تكذب ذلك ما قلته لنفسي في اللحظة التي رفعتُ الصورة فيها من الألبوم لألصقها في دفتر الصور». (ص:12) «الصور تكذب صاح يوسف... الصور تكذب صاح الأستاذ طاهر... الصور تكذب صاح ياسين...» (ص: 41) وتنقسم شخصيات الرواية إلى ما هومتعلق بخيال الرواي وما هو تاريخي لا لبس حوله. فمن الشخصيات التاريخية منها ما هو أدبي: شفيق الكمالي، هرمان ملفل. ومنها ما هوفني: عبد الوهاب، فريد شوقي. ومنها ما هوسياسي: صدام حسين، عبد الرحمن قاسم. ومنها ما هو ديني: الخميني، الإمام رضا. أما شخصيات الرواية الخارجة عن إطار الأحداث السياسية والتاريخية فهي شخصيات بسيطة لا تعقيد في طباعها تمثل بشفافيتها نموذج الإنسان العراقي العادي. فنجد الراوي وعلاقته بأمه وجدته وخاله، وكذلك علاقته بصديقَيه ياسين ويوسف، لينتقل إلى وصف شقيقي يوسف: سعود وصفاء. ويحمل عباس قارئه إلى الاطلاع على وضع المرأة العراقية من خلال طيف «كريمة» المرأة الخاضعة رغماً عنها لقيود المجتمع وعاداته المتعارف عليها. ويجد القارئ كذلك أخيلة العائلة العراقية، البسيطة المدخول، المتواضعة الحال. المكان في هذه الرواية واضح جلي: كراج المعقل، العشار، طريق المحطة، رصيف الشارع المقابل لميناء المعقِل... وأحداث الرواية تدور في منطقة المعقل في مدينة البصرة في العراق. وهناك حادثتان بارزتان فقط خرجَت فيهما أحداث القصة عن هذا المكان: عندما توجه الخميني إلى حدود الكويت محاولاً مغادرة العراق ولكن محاولته لم تنجح، وعندما تزوَجَت كريمة وهي إحدى شخصيات الرواية، وذهبَت إلى بيت زوجها في الهارثة. يتناول عباس في روايته هذه حقبة معينة من التاريخ العراقي، ولكنه لا يتناولها بكل ما فيها من أحداث سياسية مهمة وحسب إنما يزيد عليها ويضعها في إطار سردي مشوق فيه ما فيه من هفوات الطفولة وغراميات الشباب. ينقسم زمن السرد إلى قسمين: ألاول هو القسم الخاص بالسرد الذي نُسِجَت أحداثه في مخيلة الكاتب: إنه سرد ذو أبطال غير معروفين ولا تاريخ لهم كيوسف وسعود وكريمة، أما القسم الثاني فهوسرد مبطن لأحداث العراق الحقيقية، السياسية منها والاجتماعية والدينية. أما القسم المتخيل فقد ذكر فيه شخصيات متعددة من أبرزها طبعاً الراوي الصغير جامع الصور وصديقه ياسين وصديقه الآخر يوسف وشقيقَيه سعود وصفاء وقصصهم الصغيرة المختلفة التي أضفَت لوناً عذباً على الأحداث السياسية، ولمسة دافئة حقيقية على الرواية. تتميز بنية القسم الأول بقفزاتها الزمنية، فالراوي وإن كان لا يتوانى عن ذكر تواريخ محددة فهو يمارس الاستباقات الزمنية والرجعات بشكل كثيف معتمداً حركةً لا تهدأ ولا تسير بحسب التسلسل الطبيعي للوقت: «بعد حوالى خمس سنوات مع أول قذيفة تطلقها إيران على ميناء المعقل سيموت سعود ولما يكن قد تزوج بعد أوأكمل الثلاثين.» (ص:28)، «سيراها بعد أكثر من عشر سنوات كما هي...» (ص:34)، «من أم الصبور حيث أقمنا في بداية السبعينات، أومن البلة حيث أقمنا في أواسطها...» (ص:13) أما القسم الثاني فيجد فيه القارئ مؤشرات زمنية دقيقة كثيرة وبخاصة عندما يتعلق الأمر بسرد حدث ذي طابع سياسي أوحدث مؤرَخ عالمياً: «في التاسع من شباط 1963» (ص:44) وهو يوم مقتل عبد الكريم قاسم الزعيم العراقي الذي أخرج العراق من النظام الملكي وأعلنه جمهورية (1958)، أو مثلاً: «الثلاثون من آذار 1977» (ص:79) يوم وفاة عبد الحليم. لا يتلاعب عباس في الزمن ولا يغيره بل يسير قصته بحسب التواريخ السياسية أوالعالمية.. فعدد من أحداث هذه الرواية دارَ في الواقع وأثرَ فيه سياسياً واجتماعياً، كالسرد المتعلق بالخميني. وعدد من الأحداث خاص بالأبطال كالراوي وأصدقائه، الذين وضعهم عباس لتأطير الأحداث السياسية وتقديمها بلباقة. يظهر وصف عباس بسيطاً واضحاً فهوراعى لغويا هذه البنية المتعددة العناصر المحكمة السبك، وعمَد إلى استعمال سهل العبارة وشائعها، كما أنه في الحوارات بين الشخصيات لم يتوانَ عن إيراد اللهجة العراقية الصرف. يظهر أسلوب الكاتب إذاً خفيفاً شفافاً لا مجال فيه للبس ولعله عمد إلى هذه اللغة السهلة لكون الراوي هو صغير السن هوايته جمع الصور وبالتالي فلا يمكن منطقياً أن يسرد بلسان أدبي بليغ».