أحد الدروس المهمّة في الانتخابات اللبنانية والإيرانية الأخيرة أنه لا يمكن التعويل على تحوّل السياسة الأميركية تجاه المنطقة كشرطٍ لتغيير توازنات اللعبة بين المحاور والأطراف المتنافِسة، ذلك أن نتائج الانتخابات، وبغض النظر عن مواقع الفائزين والخاسرين، لم تكن سوى اختبار جدّي لقدرة جميع اللاعبين على توظيف العامل الأميركي لصالحهم، ومدى استعدادهم للرهان عليه مستقبلاً. وقد بدا لوهلة أن باراك أوباما، بلغته وخطابه الجديد، هو الغائب الحاضر طيلة الحملة الانتخابية في كلا البلدين. وبينما راهن البعض على أن تمثل هذه الانتخابات نهاية لسياسات الممانعة والاعتدال، وسقوط أحجية أطرافهما في إبقاء الصراع على حاله، فإذا بها ترسّخه، وتدفع بجميع الأطراف نحو جولة تنافسية جديدة قد لا تنتهي قريباً، وربما تكون أكثر سخونة وتعقيداً. الآن، وبعد انتهاء الجولة الأولى من السباق بين المعتدلين والممانعين في عهد أوباما، يمكن رسم ملامح الشكل الجديد الذي قد تأخذه المعادلة الإقليمية خلال المرحلة المقبلة، والذي يمكن استكشافه من خلال أربعة عناصر أساسية. أولها اعتراف الجميع، ممانعين ومعتدلين، بأن التعادل هو سيّد الموقف، وأنه لا يجب التعويل كثيراً على فكرة ضعف الخصوم وانكسارهم لمجرد حدوث تحوّل في المِزاج الإقليمي العام. وقد كان هذا التعادل هو الحاكم لردود أفعال جميع الأطراف خلال الأسابيع الماضية. فقد خسر الممانعون (قوى 8 آذار) في لبنان ولكنهم ربحوا في إيران (علي خامنئي وأحمدي نجاد). ولم يبالغ أي من الطرفين في تقدير مكاسبه وخسائر الأخرين. ف «حزب الله» أقرّ، في نُبلٍ، بالهزيمة ولم يسع لتكسير أواني خصومه، رغم تحفظه على أدائهم الانتخابي. فى حين اتسم رد فعل سعد الحريري، ورفاقه، بالذكاء والحذر في الاحتفاء بنصرهم، ليس فقط تخوفاً من إفساد فرحتهم وامتصاص غضب الخاسرين، وإنما أيضا حفاظاً على «شعرة معاوية» مع «حزب الله»، وفقاً لقاعدة «التوافق الإجباري». وبنفس الدرجة من الحذر كان رد فعل الرئيس الإيراني الفائز محمود أحمدي نجاد تجاه منافسيه، فقد سعى نجاد مبكراً لامتصاص غضب الشارع الإصلاحي ودعا إلى فتح صفحة جديدة مع زعمائه، وهو يدرك جيداً أن فوزه هذه المرة، وعلى عكس سابقتها، لا يؤهله للاستمرار في سياسته الاستعلائية داخلياً وخارجياً. وقد كانت هذه الانتخابات درساً قاسياً لجميع رموز الدولة الإيرانية، و «بروفة» مبكرّة لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في إيران، ما لم يحدث تغيير جوهري في طريقة عمل النظام الإيراني وإعادة تركيب العلاقة بين مؤسساته من أجل تقليل الفجوة الراهنة بين قيادة النظام والقوى الحيّة في الشارع الإيراني. وستظل الانتخابات الإيرانية الأخيرة علامة فارقة في المشهد السياسي الإيراني لسنوات قادمة، وقد تؤشر لبداية حدوث تغير جوهري في منظومة الثورة الإيرانية وإرثها الثقيل. ثانياً، سيتعين على جميع اللاعبين من الآن فصاعداً، الحذر في الاتكاء على العامل الأميركي، سلباً أو إيجاباً، سواء في توجيه تحركاتهم الإقليمية، أو في رسم علاقاتهم بالخصوم. وهو ما اتضح جلياً خلال الأسابيع القليلة الماضية، فلم يعوّل عليه المعتدلون، ولم يقع في فخّه الممانعون. فعلى سبيل المثال لم تسع كتلة «14 آذار» إلى توظيف الدعم الأميركي لقوى الاعتدال خلال حملتها الانتخابية، بقدر ما راهنت على فكرة الحفاظ على الدولة مقابل ما هو دونها، وهو ما تجسّد بوضوح في تحوّل المِزاج المسيحي باتجاه مرشحي الكتلة في بعض الدوائر الفاصلة (مثل زحلة والدائرة الأولى ببيروت والبترون والمتن الشمالي)، وذلك في مواجهة مرشحي التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون. في المقابل تعاطى «حزب الله» بذكاء مع استحقاقات التوجه الأميركي الجديد تجاه إيران وسورية، ولم يعوّل عليهما كثيراًَ في كسب الغالبية النيابية، وهو لم يركن لتوظيف «المقاومة» شعاراً انتخابياً، ولم يحاول التشكيك في ولاءات منافسيه، وذلك من أجل الحفاظ على صورته حتى وإن خسر الانتخابات. وفي إيران لم يلجأ أحمدي نجاد إلى ثوريته المعتادة تجاه الولاياتالمتحدة عند مخاطبة الإيرانيين، وقد ركّز طيلة حملته الانتخابية على قضايا الفساد والاقتصاد ومساعدة الفقراء. وهو قطعاً لن يخرج من هذه الانتخابات كما كان قبلها في ما يخص توتير العلاقة مع الغرب، ليس فقط بسبب النهج الانفتاحي الأميركي تجاه بلاده، والذي قد يُحرجه أمام خصومه، وإنما بسبب وجود معارضة داخلية واضحة لسياساته الخارجية. ثالثاً، من المتوقع أن تتم إعادة تشكيل التوجهّات والتحالفات بين اللاعبين فى المنطقة، وذلك في ضوء جرد مكاسب وخسائر المرحلة الماضية. فقد تأكد للممانعين أن الاعتماد المجرّد على أفكار وسياسة المجابهة والتحدي قد لا يكون كافياً لضمان البقاء داخل «مربّع» اللعب، وأن ثمة حاجة ملحّة لإحداث تغيير جوهري، على الأقل في لغة الخطاب، تماشياً مع تغيّر اللغة الأميركية وتساوقاً مع مفرداتها الجديدة. وهو ما يمكن استشعاره في اللغة التي تتحدث بها حالياً حركة «حماس» والتي تخشى أن يؤدي موقف أوباما، غير التقليدي، تجاه إسرائيل إلى «سحب البساط» من تحت أقدامها لمصلحة محمود عباس وجبهته. في حين يبدو جلياً أن ثمة شقوقاً، ولو صغيرة، قد يشهدها جدار تحالف قوى الممانعة. وتبدو سورية كما لو كانت مشغولة عن دعم حلفائها في لبنان وفلسطين، بتحسين علاقاتها مع واشنطن واقتناص الفرصة التاريخية بفك عزلتها وتكريس وضعها الإقليمي في المنطقة. وهي تقوم الآن ببراعة، لم تفارقها يوماً، بخلط جميع أوراق اللعبة بيدها، كي تخرج منها ما تريد سواء لمساومة الخصوم أو لإسكات حلفائها. في المقابل يبدو المعتدلون في «ورطة» كرّستها سياسة أوباما الجديدة تجاه الممانعين. ولم يعد بمقدورهم المزايدة على تشدّد الخصوم تجاه واشنطن. ولا يزال هاجس «الصفقة الكبرى» بين طهرانوواشنطن يهيمن على كثير من حساباتهم. ولا تفت من ذلك مساعي واشنطن لتهدئة هذه الهواجس، سواء من خلال رسائل مباشرة بذلك، أو عبر فتح حوار استراتيجي مع بعضهم على غرار ما حدث مؤخراً مع مصر. فالمنطق الأميركي الجديد في المنطقة، وعلى عكس سابقه، يتأسس على مبدأ «المصالح المضمونة»، وليس «المتوقّعة»، ما يعني إمكانية التضحية بعلاقات قد لا تحقق وظيفتها، أو على الأقل يتم تهميشها لصالح علاقات جديدة ربما تكون أكثر نفعاً. والملفت أن ثمة فرصة سانحة للولايات المتحدة الآن للاستفادة من شبكة المحاور والتحالفات الجديدة الناشئة في المنطقة. فعلى سبيل المثال يمكن لواشنطن الاستفادة من توظيف المحور العراقي - السوري (الآن ثمة حوار استراتيجي رفيع بين كلا البلدين)، أو السوري - التركي (ثمة تقارب تاريخي بين الطرفين)، بشكل قد يفوق نظيره السعودي - المصري، أو المصري - الأردني. رابعاً، تبدو المنطقة مُقبِلة على «حقبة مبادرات» من جانب جميع الأطراف. وهي مبادرات ستكون أقرب للتحايل على الواقع، وستبرز كإحدى أدوات اللعب، وذلك من دون حدوث تغيّر حقيقي في السياسات والاستراتيجيات. فمن المتوقع أن تعلن إدارة أوباما قريباً عن خطتها الشاملة للسلام، وهي خطة تبدو ملامحها العامة واضحة حالياً للجميع. تقابلها خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو للسلام التي أعلنها قبل يومين. في حين من المنتظَر أن تعلن حركة «حماس» عن استراتيجيتها للتعاطي مع الموقف الأميركي الجديد والاستحقاقات الإقليمية المترتبة عليه. ولربما نسمع خلال الأسابيع المقبلة عن مبادرات إيرانية وسورية وتركية تسعى جميعها للاستفادة من حال السيولة الراهنة في المنطقة. * كاتب مصري