يقول ويل ديورانت في «قصة الحضارة» واصفاً حال الوئام والمحبة بين الأقباط والمسلمين في مصر وفي غيرها من البلاد العربية: «وكان المسيحيون والمسلمون يتزاوجون في ما بينهم بكامل حريتهم، ويشتركون من حين إلى حين في الاحتفال بأحد الأعياد المسيحية أو الإسلامية المقدسة، ويستخدمون المبنى الواحد كنيسة ومسجداً...». أجل، سجل علماء الأديان عبر التاريخ أنَّ مصر كانت منبع الديانات، وموطن العقائد، ومكان التعايش والتسامح، وموئل الارتباط العضوي والنفسي بين الطوائف والنِّحَل بصورة لم تشهدها دولة أخرى! فقد نظرت إليها أفئدة المضطهدين، واحتمت إليها قلوب الخائفين، ولجأت مستجيرة بها ملايين اللاجئين بأنفسهم وأديانهم ومعتقداتهم ولغاتهم، حيث قصدتها شعوب الشرق والغرب، لما تتمتع به من أطر السماحة، والعفو والتعاون والتشارك، فهي بلد الأنبياء، ووطن الأولياء، وراحة الأتقياء، وساحة النازحين والمظلومين، وكهف المنفيين والمشردين من أقطار الدنيا! يقول شعيب خلف في كتابه «أحفاد أخناتون»: «كان طبيعياً أن تنتشر المعاني الروحية والأخلاقية في نماذج الأدب المسيحي (المصري) والمعاني التي نادى بها جميع العقائد والأديان، والتي تعلي من شأن إنسانية الإنسانية. كان المصريون أصحاب دين حتى قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام على أرضها بقرون عديدة، بل حتى قبل أن يبشر أخناتون بالتوحيد على أرضها، فكان المصريون القدماء يرددون أن العالم خلق من الكلمة، والكلمة هي الدين والتوحيد! فلم يكن جديداً إذن أن يقبل المصريون على المسيحية، لأنهم وجدوا فيها ما يغذي الروح، بما قدمته من سماحة. ولم يكن جديداً أيضاً أن يدخلوا في الإسلام أفواجاً، لأنهم وجدوا فيه ما يغذي الروح والعقل معاً. من هنا لم يكن غريباً أن يمدح نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم عدداً كبيراً من الأقباط وغير الأقباط من المسيحيين، بل لم يكن أيضاً غريباً أن يمدح المسلمون السيد المسيح عليه السلام في قصائد رائعة، دليلاً على الوفاء والمحبة والتسامح والتعايش». فها هو ذا الشاعر حسن طنطاوي سليم -شاعر المنيا- يهنئ الأقباط بعيد الميلاد المجيد، فيقول في الاحتفال الذي أقامته مطرانية المنيا: (باسمِ دين النبي دين الأمانِ/ جئتُ آلَ المسيح أزجي التهاني/ كنتُ بالاسم أغني/ ولذات المسيح صغت الأغاني/ عيدكم عيدنا ونحن وأنتمُ/ ورغم أنف العدا يدٌ لا يدانِ). ونجد الشاعر عبد الفتاح العقيلي يقول عن عيد المسيح في لغة هي الحب والمودة: «وأذكر فجر المسيح فإنه/ فجر الحياة فقد أزاح دجاها/ وُلد المسيح محبة وتسامحاً/ رفعت بمولده السماء لواها/ يا يوم ميلاد المسيح لقد سمت/ بك أعصر وبك الزمان تباهى». ويصور الشاعر القبطي إسكندر أبو الهول في قصيدته «ميلاد النور» الوحدة الإنسانية والاجتماعية بين المسلمين والأقباط، تلك الوحدة التاريخية والحضارية، فيقول: «الكون يا رب السماء صحائفٌ/ فيها عليك تحية وسلامُ/ في كل بارقة وكل وضيئة/ منك الجمال ومن علاك نظامُ/ والسحب إن ظهرت فهن قوافل/ منهن منك جدى وطعام/ والبحر ذو الأمواج ما حركاته؟/ إلاَّ سجود لربنا وقيام». بينما نرى الشاعر القبطي خليل جرجس خليل يهاجم إسرائيل الصهيونية، متخذاً من القرآن والإنجيل نبراساً يسير عليه ويسير عليه المصريون حتى يأتي النصر أيام النكسة، ومتخذاً من فيوضات، وإشراقات الكنيسة والمسجد طريقاً له للتحرير، فيقول: «وفوق رأسي رايتي/ وغضبتي في عضدي/ وأحضن الإنجيل والقرآن/ ذرعاً في يدي/ أحمي حمى تراثنا/ كنيستي ومسجدي/ أقداسها ما عرفت/ من زائر لم يسجد». ويقول الشاعر محمد أحمد خلف الله عن الوحدة المتينة بين الأقباط والمسلمين المشهودة في ربوع مصر: «لهمو عهود عندنا مرعية/ أبد الزمان وذمةٌ لن تُخفَرا/ لنا وإياهم لمصر ونيلها/ وطن سألت الله أن يتحررا/ وطن وهبناه النفوس رخيصة/ والنفس أغلى ما يباع ويشترى». بل إنه يُشيد بهذه العلاقة الطبيعية بين الطرفين، تلك العلاقة العضوية التي تقوى على نوائب الأيام، وتقلباتها، فيقول: «الأمة الغراء صف واحدٌ/ وحبال جيرتها موثقة العرى/ أوما تراها أعرضت عن معشر/ بئس الدعاة إلى التفرق معشرا/ قالوا الأقليات قلت رويدكم/ لا تُرجِعوا صَفْوَ القضية أكدرا/ سيان في دين السماح وشرعه/ مَن شادَ صومعةً وأسس مسجداً». فعلى هذا المنوال من المحبة والسلام كانت العلاقة بين الأقباط والمسلمين في صورة من التواصل والتواد والانسجام، فلماذا تغير الوضع الآن؟ وكيف تعود الوشائج مرة أخرى إلى سابق عهدها الذهبي من الارتباط الروحي، والوطني، والمجتمعي؟