تعدّ لندن مدينة دولية منذ مئات، بل وآلاف السنوات. وفي حين لا يمكن لهذه المدينة ادعاء تميّزها بالتاريخ القديم، على غرار عدد كبير من المدن التجارية الرائعة في الشرق الأوسط، إلا أن موقع عاصمة بريطانيا ولغتها ونظامها السياسي، سمح لها بأن تزدهر وتنمو لتصبح مركزاً مالياً حتى في ظلّ تراجع الأهمية الاقتصادية للمملكة على المستوى العالمي. وتحظى بريطانيا، بفضل تاريخها في الكومنولث وعلاقاتها التجارية، بمجموعة من التحالفات والصداقات التي تعود إلى مئات السنوات، والتي ساهمت في تعزيز موقع لندن المالي. غير أن جاذبية مدينة لندن كوجهة للأموال الدولية المستثمرة في العقارات لا تقوم على هذه الروابط التاريخية وحدها. يساهم موقع مدينة لندن في أوروبا وخارج منطقة اليورو، ونمطها ووتيرتها المختلفة عن أوروبا القارية، وتواجدها على نصف المسافة بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة، في جعلها مدينة دولية. وساعدت مقاربة مدينة لندن الليبيرالية والمرحِّبة بالأشخاص الآتين من الخارج إلى جانب القوانين المتساهلة التي تسمح للجميع من أينما أتوا بشراء العقارات، في تطوير هذه المدينة لتصبح وجهة عقارية مميزة. بلغ ثمن القدم المربعة ستة آلاف جنيه إسترليني في منطقة نايتسبريدج السكنية خلال السنة الماضية. ويتوقع خبراء أن يرتفع السعر إلى 10 آلاف جنيه إسترليني قبل حلول عام 2020. وتُعتبر هذه الأسعار باهظة جداً، ويُعزى سبب ذلك إلى الطلب على هذه العقارات من أنحاء العالم كلها. إن سوق العقارات المميزة في لندن واسعة على المستوى المالي وضيقة على مستوى الرقعة الجغرافية، وهي تضمّ كل من تشلسي ونايتسبريدج ومايفير وكينسينغتون وسانت جونز وود ونوتينغ هيل وهولاند بارك وبعض أنحاء بايسووتر. ويرغب عدد كبير من الأشخاص من أنحاء العالم كلها في شراء عقارات في هذه المناطق، ما يعني وجود عقارات قليلة غير كافية لتلبية الطلب العالمي، فيبدو الطلب مرتفعاً إلى حدّ أن الأسعار استمرت في الارتفاع حتى خلال الأزمة الاقتصادية والمالية في السنوات القليلة الماضية. ولا يحتاج الشارون، الذين يستحوذون على عقارات مميزة في بريطانيا إلى اقتراض المال، فهم يملكون سيولة نقدية كبيرة أو رأس مال كبير. غير أن المشكلة التي تعترضهم لا تكمن في كيفية تمويل صفقة شراء بل في كيفية هيكلة الصفقة المالية. تساعد القوانين الضريبية في بريطانيا على تحقيق ذلك. وعلى رغم أن الضغوط السياسية أدت إلى تغييرات على مرّ السنوات الخمس الماضية وإلى تعقيد عملية تخطيط الضرائب، لا يزال الشاري من خارج البلد قادراً على تملّك عقار، سواء كان شقة صغيرة أو منزلاً كبيراً أو مبنى يُستثمر بطريقة ضريبية فاعلة. لا تؤثر ضرائب الإرث والضرائب على عائدات رؤوس الأموال، وإلى حدّ معيّن الضرائب على الدخل التي يسددها السكان والمواطنون المحليون المولودون في بريطانيا، في المستثمرين من الخارج، الذين ترحب الحكومة بهم وبأموالهم بفضل التخطيط الدقيق للنظام الضريبي. وعلى رغم أنه يمكن تفادي هذه الضرائب، يجلب الشاري الآتي من الخارج في كل مرة يحل فيها في لندن، المالَ إلى البلد، ويسدد الضرائب بطريقة غير مباشرة، إذ تخضع فواتير الفنادق والمطاعم وأتعاب المحامين والمحاسبين وعمولات وكلاء العقارات وفواتير المقاولين إلى الضريبة على القيمة المضافة التي تبلغ 20 في المئة. وفيما يناضل اقتصاد بريطانيا لتجاوز الأزمة، ولو أقل من اقتصادات اليونان والبرتغال وإرلندا وإسبانيا، غير أن ذلك لا يبطئ سوق العقارات المميزة في لندن، فلا يُعدّ الطلب في مدينة لندن محلياً بل عالمياً، كما أن ثمة اقتصادات تنمو في العالم وأخرى تتراجع. وفي وسع المرء أن يحكم على ازدهار أجزاء مختلفة من العالم من خلال مراقبة هوية الأشخاص الذين يشترون العقارات في لندن، فحين كان اقتصاد بريطانيا قوياً، كان الأثرياء الذين يعيشون في بريطانيا يشترون العقارات ويستثمرون في المدينة. وفي السبعينات والثمانينات، جاء عدد كبير من الشارين من الشرق الأوسط، بما أن الثروة النفطية ساعدت عدداً كبيراً منهم على جمع الثروات. وفي نهاية التسعينات اشترى عدد كبير من الروس عقارات في بريطانيا، وأخيراً أشخاص بارزون من أوكرانيا. أما الصين، فهي آخر بلد يرسل الشارين إلى لندن. وينظم وكلاء العقارات في بريطانيا معارض للعقارات في الشوارع، لبيع عقارات لندن في الشرق الأقصى. ويفسر ذلك سبب انفصال اقتصاد بريطانيا المحلي عن أسعار العقارات الفخمة في لندن. ويعتبر عدد كبير من الأشخاص أن مدينة لندن هي، على غرار مدينة نيويورك، ولاية قائمة بحد ذاتها. وسيستمر الأثرياء الدوليون الذين لا يواجهون عقبة الحدود، ويملكون ثروة كافية تخوّلهم العيش حيث يحلو لهم والاستثمار في وجهات مطلوبة عالمياً، في رسم مستقبل المدن الدولية، من خلال قراراتهم الاستثمارية. وترحب الحكومات بأشخاص مماثلين وبأموالهم، وتستمر لندن، التي تملك تاريخاً طويلاً على صعيد استقبال الزائرين، في القيام بذلك. يُعدّ شراء العقارات في لندن سهلاً ومنفتحاً وجاذباً للمستثمرين من أنحاء العالم كلها. وفيما قد تبدو العقارات باهظة الثمن اليوم، ستكون قيمة العقارات الموجودة في المناطق الراقية كبيرة في الغد، طالما أن الطلب العالمي مستمر. * محام بريطاني