لم يعد الشعراء يموتون من العشق والشوق. يقتلهم اليومَ القهر، ويقضي عليهم توقهم إلى مساحة كتابة، وفسحة حريّة وملعب أحلام. فانكساراتنا القوميّة والوطنيّة جرّحت الشعراء، وفتّتت آمالهم، فصاروا يلتقون في ساحات الصراع... صراع البقاء في عالم أدبيّ لا ترعاه دولة، ولا تحميه حقوق، ولا يحتفل به قارئ مثقّف. وصباح زوين، التي رحلت مع صباح الخامس من حزيران (يونيو)، قتلها الشعر الذي يضجّ في أعماقها. هي لم تصارع المرض طويلاً، بل صارعت الحياة فصرعتها الخيبة. فثقافتها الواسعة، واللغات التي تجيدها، لم تكن أسلحة كافية كي تستطيع هذه المرأة الرقيقة النحيلة أن تجابه بها الهمومَ اليوميّة، وضيقَ المجال العمليّ، وطبيعةَ شخصيّتها التي لا تهادن ولا تسالم ولا تسكت عمّا تراه لا يتناسب مع ضجيج الكلمات في داخلها. صباح زوين، انحنت على أحرفها، حضنتها، أغلقت الباب خلفها وغابت غير آسفة على شيء، كأنّها وهي تنتقل مرغمة مرّة، وراغبة مرّة ثانية، من منبر صحافيّ إلى آخر، تفقد بعضاً من حياة تنسّكت فيها للكتابة. اما عبورها إلى حيث لا قلق على راتب ولا غضب على إجحاف ولا موت لقصيدة، فلا يتم من دون ضوء يلقى على شعرها، فلا شيء يرضي هذه المرأة الممتلئة شعراً سوى أن تعرف أنّنا نعترف بها شاعرة لها لغتها الخاصّة، وحضورها الغنيّ. ليس شعر صباح زوين بالسهل، وليس من الشعر الذي يداعب عاطفة ويحرّك رغبة عابرة، ولا يمكن وصفه أو اختصار أفكاره أو تقليده. ويمكن القول إنّه من الشعر الذي يجبر قارئه على الجلوس إلى المكتب، وحمل القلم، والقيام بعمليّة ذهنيّة حسابيّة إحصائيّة، ووضع جدول بالحقول المعجميّة لكلمات هي من صلب لغة الشاعرة بل هي هوسها ومحور تفكيرها، تدور حولها وتعصرها وتمتصّ نسغها ولا تشبع. صباح زوين لا تكتب شعراً، فالشعر الساكن فيها منذ اكتشفت اسم هذا الغامض الذي يجعلها ترى ما لا يراه الآخرون، وتشعر بغير ما يشعرون، وتلتقط من عابرات النظرات والكلمات والمشاهد ما يهرب سواها من رؤيته والاعتراف بوجوده، هذا الشعر المولود معها وفيها ومنها ينفجر ولكن تحت رقابتها الصارمة، وحين تقرّر هي. كأنّي بها تُخضع الأمر كلّه لعقلها الذي يقرّر عن سابق تصوّر وتصميم موعد جنونه وعبثه باللغة والصور والأفكار، ونحن كقرّاء، نقع تحت سحر الوهم الذي أوحى إلينا بأنّ ما بين أيدينا إنّما هو هلوسات تستعاد بلا ضابط أو نظام. وهنا تنجح الشاعرة في وضعنا على حافة مصيدتها، فلا هي تُطبق علينا الخناق بالتكرار والاستعادة واختراع تراكيب لغويّة مجتزأة وغريبة تكاد تبدو بلا معنى لمن لا يصبر إلى المنتهى (على رغم كلّ هذا الغروب لم تنكفئي، لم، وظلّت ساقاك تركضان)، ولا هي في المقابل تفلتنا من أسر ألاعيبها الذكيّة التي تتحدّى عقولنا وهي تؤكّد لنا أنّ الأمر كلّه مرهون بفهم العلاقة بالكلمة، فتقول ل «أنا»- ها مرّة بعد مرّة: «أنتِ التي من الكلمة تنبثقين ومنها في قلب الغسق متّ وتموتين»، «وتركضين في البراري وراء الأحرف تركضين، الهاربةُ منك الأحرف أنتِ التي في هيام الكتابة والمكان»، «تتبدّدين، لأنّك الكلمة ولأنّك من الكلمة تموتين». كأن صباح زوين كانت تحيا لتكتب، تحبّ لتكتب، تراقب الحياة والموت لتكتب، وكلّما كانت هي نفسها انحنت على أحرفها كما تنحني الهامات خشوعاً في محراب الأحرف والكلمات، أو كما تنحني الحوامل على أحشائهنّ الحبلى لحماية أجنّة تنتظر الشهقة الأولى. ولأنّها محكومة بالكتابة، يتحوّل كيانها مجموعة من الأجهزة اللاقطة ترصد وتراقب وتسجّل وتصور ثمّ ترسل ما حصلت عليه إلى مختبر العقل حيث التحليل والربط والاستنتاج. ولأنّها مغرمة بالكتابة، يصير الآخر، أيّاً يكن، مادة عملها ومختبر مشاعرها والهدف الذي قد يتحوّل وسيلة في أيّة لحظة. ومن أجل الكتابة وبسببها تسمح الشاعرة لنفسها بالتحرّر من شتّى القيود التي قد تعوق انفجار الشعر ثمّ انسيابه. وإن كان سواها يسمح باستعمال شتّى الأساليب في الحبّ والحرب، فهي في الشعر تبيح المحظورات وتفكّك أوصال العبارات وتخترع لغة جديدة من مفردات قديمة، فلا شيء مقدّس ولا شيء محرّم شرط أن تبقى اللغة رصينة، سليمة، صحيحة، لأنّ قواعدها من عمل العقل. ونصوص صباح زوين مهما جنّ بها الهوى وجرفها التذكّر تبقى ابنة الوعي. الشاعرة صباح زوين «اللاهثة وراء إثم الكتابة» كما وصفت نفسها مرة، ستكون خطيئتها الجميلة مغفورة لها لأنّها أحبت كثيراً، أحبت اللغة بتواضع الإنسان المعترف بعجزه عن سبر أغوارها وفهم أسرارها.