أحدث قرار الرئيس محمود عباس فصل زميله في عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح تداعيات لم تهدأ، ولا أظنها ستهدأ في المدى المنظور، بل لعلّها، وهذا هو الأرجح، ستتفاعل لا بين الطرفين وحسب، ولكن أيضاً في أوساط «فتح» التي يجد أعضاؤها، بعد قرار الفصل، أنفسهم في حالة ارتباك غير مسبوقة: هم من جهة يرون أن القرار غير تنظيمي، لم يتم اتخاذه عبر القنوات التنظيمية الشرعية، ومن جهة أخرى يحملون كثيراً من الملاحظات على محمد دحلان و«الظاهرة» التي يشكلها في أوساطهم، من دون أن ننسى بالطبع أن كثراً منهم، خصوصاً في غزة، يدينون بالولاء لعضو اللجنة المركزية المفصول. ولو مررنا سريعاً على بعض تداعيات قرار الفصل فلن نجد أكثر تعبيراً من ذلك التصريح الغاضب الذي أطلقه دحلان تعليقاً على قرار أبو مازن، والذي قال فيه باستخفاف: دعوه «يبلُه ويشرب ميته»، في إشارة اعتداد واضح إلى حجم التحدي الذي يرفعه في وجه رئيس حركته، والذي لم نشهد تحدياً مماثلاً له من قبل على رغم الأزمات الكثيرة التي عاشتها «فتح»، وأخذ بعضها طابعاً شرساً لم يخل حتى من اقتتال بالسلاح. هي بمعنى ما «معركة كسر عظم». ذلك أن طرفي القرار – الأزمة يبدوان في سياق تداعياتها وقد تمترس كل منهما بموقف نهائي طابعه الأبرز الإقصاء، ليس بسبب الخلافات الظاهرة على السطح وحسب، ولكن أيضاً بسبب رغبة كل منهما أن تكون هذه «المعركة»، حاسمة ونهائية سواء في الوجود التنظيمي القيادي في إطار فتح، وأيضاً في السياسة، التي بات واضحاً أن محمد دحلان يهيئ نفسه لدور أكبر يشعر بأنه يستحقه، فيما خصمه اللدود أبو مازن بات يشعر أخيراً بثقل ووطأة ما يمثله دحلان من إزعاج وشغب على سياساته عموماً، إلى حد إعطاء أوامره بإقصاء كل من يؤيدون دحلان، ولو بالتعاطف، كما قالت الأنباء الواردة من هناك. على رغم تعقيدات الأزمة وتشابكاتها وتأثيرها الخطير، إلا أنها، وهذا جانبها الساخر ربما، تحمل الكثير من ملامح الساحة السياسية الفلسطينية التي حكمت عملها طيلة العقود الماضية: الفوضى والتجريب، وسهولة أن يحقق أيُ مغامر لنفسه مكاناً في صفوفها، فالوسيلة الرائجة والفعالة هي «الفهلوة» والشطارة بالمعنى الشعبوي للكلمة. فوضى ورخاوة العلاقات السياسية والتنظيمية سمحت على مدار عقود لكثر من القيادات الأولى والمتوسطة أن تقيم علاقات مع الدول والهيئات السياسية العربية والأجنبية (من الباطن)، أي لمصلحتهم هم، علاقات تأخذ عادة يافطة التنظيم ولكنها في الحقيقة تصب في مصلحة صاحبها وحسب. يتذكر الفلسطينيون على اختلافهم أن عدداً من ممثلي منظمة التحرير في بعض العواصم العربية قد استعاض الناس عن أسمائهم الكاملة بأسمائهم الأولى الصغيرة مرتبطة بالعواصم التي يعملون فيها، فبتنا نسمع عن فلان الجزائر، وفلان العراق وهكذا، وهي تسميات عكست إلى حد بعيد حقيقة أن ممثلية المنظمة في هذه العاصمة أو تلك ليست أكثر من إقطاعية للممثل ذاته، والذي يتصرف على ذلك الأساس. في سياق نهج سياسي وتنظيمي كهذا نمت وترعرعت آفات الحالة الفلسطينية التي لم تجد على مدار تلك العقود وقفة جدّية أمامها لمعالجتها واجتثاثها، وهو ما جعل تلك الأخطاء تتراكم الى الحد الذي صارت معه هي الأساس والمركز، وكل ما عداها من الإيجابيات ظواهر هامشية تكافح من أجل تثبيت وجودها، وحين لم تستطع اكتفت بالتعايش مع تلك الظواهر الشاذة والسكوت عنها، أو تناولها بالنقد الخجول بين وقت وآخر. اليوم تبدو الحالة الفلسطينية عموماً و «فتح» بالذات مرتبكة أمام مشاكلها التي «غضّت» عنها البصر والبصيرة عقوداً طويلة، وتبدو «قضية محمد دحلان» اليوم أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير، بل التي تنذر ببداية صراعات عاشت طويلاً تحت الرّماد. فهل يمكن الوصول بسفينة «فتح» إلى برّ الأمان عبر الأطر التنظيمية والسياسية الفتحاوية الراهنة؟ أعتقد أن تحقيق «خروج آمن» للجميع من هذا المأزق – المعضلة لا يمكن أن يتحقق إلا بالعودة من جديد للبديهيات التي عرفتها شعوب الأرض كلها وهي المساحة الديموقراطية. لا يمكن رؤية حلول صحيّة وطبيعية من دون الاحتكام لشرعية «فتح» بالذات، وأعني هنا مؤتمراً حقيقياً لا يقوم على التلفيق والترضيات، و«توزيع» حصص العضوية كما جرت العادة في مؤتمرات سابقة، وبالذات المؤتمر الأخير، والذي نعتقد أن شكل انعقاده، ومن ثمّ نتائجه قد أسهمت الى حد بعيد في توتير الأجواء التنظيمية الداخلية، وتأجيج الصراعات وصولاً الى اللحظة التي نشهدها اليوم دون ذلك لا شيء. قد «ينتصر» أبو مازن بإقصاء دحلان، وقد يصل الطرفان الى مصالحة و «تبويس لحى» من جديد وتتأجل لحظة الحسم بينهما في صراعهما الساخن، ولكن لنعود جميعاً ونسأل: وماذا عن مشاكل «فتح» ذاتها؟ * كاتب فلسطيني