يتحدث الاختصاصيون في أدب جول فيرن وحياته، بشيء من الدهشة وكثير من التساؤل، دائماً، عن أمر توقفوا عنده طويلاً. فهم اذ قارنوا بين مخطوطتين تضم كل منهما النص الكامل لرواية «الجزيرة الغامضة» مع بعض التعديلات الطفيفة بين مخطوطة وأخرى، لاحظوا انه في الصفحة التي يلفظ فيها الكابتن نيمو أنفاسه الاخيرة، ثمة عبارة في المخطوطة الاولى ترد على النحو الآتي: «ثم، اذ همس بكلمة استقلال، اسلم نيمو الروح بكل هدوء». اما في المخطوطة الثانية، فإن جول فيرن محا بخط يده، كلمة «استقلال» من العبارة نفسها ليكتب كلمتي «الله والوطن». في شكل عام يعزو الخبراء هذا التبديل، الى الرقابة الصارمة التي كان الناشر هتزل يفرضها على كتابات جول فيرن في آخر ايام هذا المؤلف. ومع هذا يلفت نظرهم حقاً، ان فيرن قام بالتبديل بنفسه... وهم - أي الخبراء - على رغم انكبابهم سنوات طويلة على محاولة فهم السبب الذي كمن وراء ذلك التعديل، عجزوا عن ذلك، اذ ليس ثمة، لا في حياة فيرن، ولا في مواقف هتزل، ولا في الاوضاع السياسية العامة في فرنسا في ذلك الحين ما يفسّر الامر. المهم ان النسخة التي طبعت وموجودة بين ايدي الناس، منذ نشر رواية ««الجزيرة الغامضة» عام 1874، هي النسخة المعدّلة، حيث أُلغيت فكرة الاستقلال من الوصية الاخلاقية للكابتن نيمو ليتحدث هذا، مكانها، عن «الله والوطن». طبعاً لا يبدل هذا الامر شيئاً من جوهر هذه الرواية التي تتوسط مسار جول فيرن الروائي، وتعتبر في شكل عام اشبه بخاتمة لثلاثية روائية «بحرية» لهذا الكاتب تضم الى جانبها، روايتين سابقتين هما «أبناء الكابتن غرانت» وبخاصة «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» التي تبقى، في الاحوال كافة، واحدة من اجمل روايات جول فيرن وأشهرها. ونذكر هنا ان «الجزيرة الغامضة» تتألف بدورها من قسمين هما: «غارقو الجو» و «المهجور». وفي شكل عام يرى دارسو ادب جول فيرن انه انما حاول في «الجزيرة الغامضة» ان يقدم ما يمكن اعتباره معادلاً معاصراً لرواية «روبنسون كروز» ولدانيال ديفو، مع فارق اساس، يكمن في جماعية التوجه. فإذا كان روبنسون كروزو في الرواية الشهيرة (التي تمتّ بألف صلة وصلة الى «حي بن يقظان» للفيلسوف الاندلسي ابن طفيل)، يمثل وحده البعد الانساني المعرفي في مواجهته للطبيعة وفرض نفسه عليها، فإن لدينا هنا خمسة اشخاص يمثلون معاً الانسانية (ليس في حالها البدائية السقراطية - بمعنى ان المعرفة كامنة داخل الانسان يكفي تضافر ظروف وأسئلة لابتعاثها من داخل اعماقه من دون ان يكون قد تعلمها) بل الانسانية في الحال المعرفية الواضحة، بمعنى ان هؤلاء الخمسة انما هم هنا ممثلو حضارة واعية قائمة على العلم والاخلاق معاً: وهم انطلاقاً من ادراكهم لحضارتهم هذه ووعيهم امكاناتها، يتعين عليهم هنا ان يجابهوا الطبيعة وقواها العاتية. ويرى الدارسون ان هذا الفارق الاساس في الذهنية بين البشر لدى جول فيرن، والانسان لدى روبنسون كروزو، انما يجعل من «الجزيرة الغامضة» رواية تعكس تماماً الذهنية الفكرية التي سادت اوروبا، وفرنسا خصوصاً، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان فيرن من ابنائها. فما هو موضوع هذه الرواية اذاً؟ في شكل عام تعتبر احداث «الجزيرة الغامضة» نوعاً من الاستطراد لأحداث «ابناء الكابتن غرانت» ثم «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» كما قلنا، من ناحية لأنها تحدث في نهاية الامر وسط البحار، بل تستعيد اشخاصاً كان لهم حضورهم الاساس في الروايتين السابقتين، حتى وإن لم تعد لهم اهميتهم السابقة هنا. والأحداث الممهدة لذلك تدور أيام حرب الانفصال الأميركية التي كثيراً ما ألهمت جول فيرن وغيره من الكتاب الفرنسيين. يومها يحدث أن أسرى كانوا وقعوا بين أيدي الجنوبيين يتمكنون من الهرب من سجنهم ومن ثم الاستيلاء على منطاد - أو مركبة تشبه المنطاد - يبارحون بواسطته الأراضي الأميركية طيراناً. ولكن ما إن تصل بهم الآلة الى اجواء المحيط، حتى تجتذب بؤرة مائية مغناطيسية الآلة مسقطة إياها وفي داخلها ركابها، على شاطئ جزيرة مهجورة غامضة لا يعرف أي منهم مكاناً لها على الخريطة. وإذ يتجول الخمسة في أنحاء الجزيرة يكتشفون انها صحراوية خالية من أي مصدر للحياة أو للغذاء. وهكذا يصبح همّ الخمسة (وهم المهندس سيروس سميث، والمدعو جديون سبيليت، والزنجي ناب والبحّار بنكروف وأخيراً الفتى هربرت) العثور على ما يساعدهم على مجابهة ذلك الموقف. بيد أن حيرتهم لن تطول، ذلك انهم إذ يتوغلون أكثر وأكثر في الجزيرة وقد وصلوا الى قمة اليأس، يكتشفون ان الثروات فيها رائعة وكريمة. وهم إذ يطلقون عندئذ اسم لنكولن على الجزيرة، يبدون وكأنهم آمنوا جميعاً بأن العناية الإلهية هي التي أنقذتهم وأعطتهم ما أعطت. ثم بعد حين تتزاحم الأحداث والمواقف، خصوصاً انهم في شكل مفاجئ يجدون أنفسهم أمام رسالة غامضة تتيح لهم ان يعثروا هناك على آرتون، عامل السخرة الذي كان اللورد غلينا رفان قد تركه وحيداً على جزيرة صغيرة مجاورة (في رواية «أبناء الكابتن غرانت»)، وها هم الآن ينقذونه من مصير بائس بدا مكتوباً له. وهم ما إن يقدموا على ذلك، حتى يلوح لهم من ناحية أخرى جواب عن سؤال كان يشغل بالهم، وبال قراء جول فيرن بالتالي، بالنسبة الى المصير الغامض - بدوره - الذي كان من نصيب المركب «نوتيليس» الخاص بالكابتن نيمو (في رواية «عشرون ألف فرسخ تحت الماء»)، إذ ها هم يكتشفون ان هذا المركب قد التجأ بطريقة غامضة الى هذه الأنحاء، وفيه فائدة الكابتن الشهير. وهكذا يتاح لمغامرينا الخمسة أن يلتقوا نيمو ويشهدوا على رحيله، اذ انه يسلم الروح بعد فترة وجيزة من اللقاء (هامساً كلمتي «الله والوطن» بدلاً من كلمة «استقلال» كما أشرنا). غير أن نيمو لن يموت قبل أن يقدم لهم من العون ما يمكّنهم من العودة الى وطنهم وفي صحبتهم آرتون. اذاً، ها نحن هنا أمام عمل لجول فيرن، يبدو في شكله الخارجي، مجرد رواية مغامرت ذات مكان واحد تقريباً، وعدد محدود جداً من الشخصيات، وحافلاً بالمفاجآت التي كان من شأنها ان ألقت السرور في أفئدة قراء أدب فيرن الذين أدهشتهم تلك «التقنية الجديدة» التي جعلت الكاتب يحل في رواية جديدة له، ألغازاً كان تركها معلقة في روايات سابقة. غير ان الأهم هنا هو أن «الجزيرة الغامضة» لم تكن مجرد رواية ألغاز ومغامرات، بل أتت عملاً فكرياً يكاد يلخص ايمان الكاتب بالانسان وبالفكر الانساني القائم على سلطة المعرفة، وعلى قدرة الحضارة على أن تقدم للإنسان ليس أجوبة نظرية فقط، بل حلولاً عملية أيضاً. ومن هنا، فإن «الجزيرة الغامضة» تقف وحيدة في سياق عمل جول فيرن (1828 - 1905) من ناحية طغيان الجانب الفكري والفلسفي فيها، على الجانب الروائي، ويبدو هذا الأمر لافتاً بل مستغرباً، لمن يعرف ان فيرن كتب «الجزيرة الغامضة» في مرحلة من حياته ومساره تميزت بكتابته أعمالاً طغت عليها المغامرة والأحداث - مع التفاتة خاصة، وإن كانت غير أساسية - ناحية العلم، مثل «حول العالم في ثمانين يوماً» (1873) و «ميشال ستروغوف» (1876)... هو الذي كان، عامين قبل «الجزيرة الغامضة» قد انتُخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية. [email protected]