بدَت واشنطن شديدة الحذر في مقاربة الاحتجاجات السورية ونتائجها. فقبل أسابيع كانت وزيرة خارجيتها لا تزال تعتبر الرئيس السوري إصلاحياً. واستلزم الانتقال إلى معادلة أن عليه «قيادة الإصلاحات أو التنحي» التي صاغها الرئيس باراك أوباما، أسابيع إضافية أعقبها قول وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون «إن شرعية النظام السوري توشك على النفاد «. أمّا الجديد الذي قد يشي ببدء تعديل مفصلي في الموقف الأميركي فهو قولها إنَّ «سورية في عهد الأسد أصبحت مصدراً لعدم الاستقرار في المنطقة» . في الديبلوماسية التي تقع على الضفة المُقابِلَة للحرب والمُتكاملة معها في تنفيذ السياسة الخارجية لدولة كبرى بحجم الولاياتالمتحدة، لا تأتي الصياغات بالصدفة وإن لم تتبعها الأفعال. وبربطِ تصريحَيْ كلينتون نرى إيحاءً بقدرة واشنطن الافتراضية على التصرف انطلاقاً من استنتاج نهاية شرعيتيْن: الأولى الداخلية - الشعبية والثانية الخارجية. ورغم أن الحديث عن انتهاء الأخيرة قد يكون مقصوداً منه الرد على موقف موسكو بأن ما يجرى في سورية «لا يؤثر على السلم ولا يستوجب بالتالي أي تدخل من مجلس الأمن»، إلاّ أنه يمثِّل مع ذلك قطيعة لفظية مع مفهوم قاد السياسة الخارجية الأميركية خلال عقود وقوامه أن النظام السوري هو احد أعمدة الاستقرار في المنطقة. وأياً تكن الحدود العملية للتصريحين فإن ديبلوماسية واشنطن لا تفعل اليوم غير الاستنتاج المُستأخَر عمداً لما كانت تعرفه وتقبله لمصلحةٍ أو لمعرفةٍ بعدم تمكنها من تغييره أو على الأرجح للأمريْن معاً. لكنه استئخارٌ لا يصدر عن ضعف في الأهمية الأصلية التي أولاها الطرفان دائماً للعلاقة الثنائية بينهما، بقدر ما يصدر عن لحظة تأزم في طابعها الاستثنائي»غير العادي». ولعَّل أبرز مفارقة على لاعاديتها، هو أن تكون سلطات دمشق على القائمة الأميركية للدول الداعمة للإرهاب في العالم والخاضعة لعقوبات اقتصادية أميركية منذ عام 2004، وأن تعتبرها واشنطن في الوقت نفسه ولأمدٍ طويل مفتاحاً رئيسياً من مفاتيح «الاستقرار» في الشرق الأوسط، حتى في عهد بوش الابن الذي اكتفى بسحب سفيره وبالضغط على النظام لتغيير»سلوكه». وأن يُقدَّم مفهوم الاستقرار هذا سبباً لتباطؤ وضعف رد الفعل في تأييد حركة الاحتجاج السورية مُقارَناً بسرعته النسبية في الانتفاضات الأخرى. أحد معالم استثنائية العلاقة كانت على الدوام، مجافاتها لظاهر منطق الخطاب السياسي للنظام السوري وحزبه «القائد»، وبدرجة أقل ضجيجاً لخطاب الإدارات الأميركية المتعاقبة عن الحريات وحقوق الإنسان والشعوب. استثنائية استندت إلى ما يُحْرَص على تسميته ب «الواقعية السياسية» ليس بمعناها الإيجابي كَمَيْلٍ إلى إنتاج مسارات وتسويات تُغلِّب السلام كمصلحة عليا وكمبدأ ناظم للعلاقات الدولية، بل السلبي المُتّستِّر على الأبعاد الحقيقية للخلافات والاتفاقات، القافز على المبادئ، المُزدرِي بها سراً النافخ فيها علناً. فهي كانت تنعقد بين نظامين متعارضيْن زمناً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، أميركي، شرعيته مستقرة منذ نهاية حربه الأهلية وخطابه ضد شمولي، وسوري يساري اللفظ عصبوي الهوى، مُنازَعٌ بشرعيته كنتاج سلسلة انقلابات عسكرية ضد الحكم المدني. الأوَّل، دولته تتواجه وتتزامن في سياستها الخارجية نزعتا الهيمنة والانعزال، لكنه قائم على الاعتراف بالحريات والحقوق الأساسية والانتخاب وفصل السلطات ووجود سلطات مُضادة ومجتمع مدني ناشط حيث الحكّام عابرون والمؤسسات دائمة والعلائق بينها في حالة تطورٍ وصراعٍ دائمين مُحْتكِمَيْن إلى القانون والرأي العام، وحيث لم يمنع التطور الرأسمالي الأصفى في العالم وفق توصيف ماركس، إقرار أكثر قوانين مكافحة الاحتكار شدةً، وغلبة الميْل قبل الموجة النيوليبرالية المُنحَسِرَة إلى تطبيق سياسات إعادات توزيع للثروة مُتأثرة بالاشتراكية الديموقراطية. فيما الثاني نظامٌ سلطاني أمني حجب الحريات والحقوق الأساسية وحوَّل المواطنين إلى رعايا ومنع السياسة حتى عن الحزب «القائد» الذي غدا هيكلاً لإدارة وتظهير طقوسية الطاعة وإعانة الأمن، ورَيَّّع السلطة وحوَّل تدخلها في الاقتصاد تارة باسم الاشتراكية في زمن الأب ثم بالرأسمالية الاحتكارية المنفلتة بعده باسم تحرير الاقتصاد، أداة إثراء وتسليط مُضافتيْن للحلقات الأقوى في السلطة، وجعل السياسة الإقليمية مُكمِّلاً بنيوياً لترسيخ النظام. كما يمكن اعتبارها ناجمة عن استثنائية لاعادية، تلك التفاهمات المديدة والمتعددة التي تخللَّت خلافاتهما المُعلَنَة منذ اتفاقية فك الاشتباك. فيما كان النظام لا يزال يزعم عداوةً تكوينية لأميركا بوصفها «رأس المعسكر الإمبريالي والحليف غير الشرطي لإسرائيل»، دون أن يتخلّى عن اعتبارها «الحَكَم» المطلوب أن يكون نزيهاً في مفاوضات يُعَوِّل على الأثر الإعلامي والديبلوماسي لسياقها الإجرائي في تغطية تواصله الأميركي وعلى فشلها في تسويغ «ممانعته»، بالتزامن مع تصاعد العدوانية الإسرائيلية ونسفها مقومات التسوية. كما لو أن سقف خلافات الفريقين بقي الحفاظ على النظام من جهة وتجنب المجابهة المباشرة من جهة أخرى، بينما تدور التوترات حول طبيعة تحالفات وأدوات وأهداف التمدد الإقليمي لكلٍ منهما. ليس الأمر مؤامرة بل نتاج مصالح متقاطعة من منطلقات متباينة استبطنها الطرفان وتمرَّسا بإدارتها عقوداً. ما سيَّد التعبير عنها بالتناقض بين المُعلَن والخفي وتنامي الحروب بالواسطة وإن كانت قدرة نظام دمشق على لعبة «التوازن» تضاءلت بعد الانهيار السوفياتي. سيكون مُربِكاً لواشنطن إسقاط النظام بيد قوى من خارجه كلياً. لذا فهي لم تألُ جهداً لدفع رأسه لقيادة «الإصلاح» وتجديد شرعيته بخسائر محدودة وتجميد انخراطه الإيراني. وهذا في أحد وجوهه انعكاس لمحاذرتها «مجهول» الانتفاضة على سياستها الشرق أوسطية المأزومة بمراعاة المُعوِّق «الإسرائيلي»، فيما تقدِّم «الممانعة» واحتضانها «الحروب غير المتكافئة» اللادولتية تغطية عبثية له بموازاة تعميق الحروب على الدواخل الأهلية السورية واللبنانية والفلسطينية. مشكلتها أن ضغوطها على النظام بدت محدودة ومتأخرة عن تظهيره لدمويته فيما زاد طلب الاحتجاجات على جذرية التحول الديموقراطي.