الرسم بالصخر، وصف دقيق لحرفة تشكيل المادة الجامدة، أو تصوير العالم المحيط، بفن الفسيفساء. استخدم في الماضي تشبيه النحت بالصخر للدلالة على صعوبة إنجاز الأشياء. غير أن إعادة تشكيل المادة الصلبة، وتليينها برؤية فنية يعد أصعب، بل مشقة تفضي الى صورة فنية خرجت من مضمونها الديني، وباتت زينة استثنائية للقصور والحدائق. فن الفسيفساء، أو «الرسم بالصخر»، يستعيد ألقه. تحول الى مطلب ضروري لهيئة تزيينية مميزة. خرج من كلاسيكيته بفعل تطور الصناعة في العالم. الشواهد الاغريقية تؤكد أن فناني ذلك الزمن كانوا يعتمدون ألواناً محددة توفرها لهم الطبيعة، وكذلك الرومان والفينيقيون والبيزنطيون. أما اليوم، فقد عُدّلت المادة الخام لتشكيل الموزاييك، أدخل عليها الايطاليون ألواناً ومواد جديدة. بات الصخر جزءاً من أصل المادة، يضاف الى الزجاج والمعدن والصدف. لكن أساس تشكيل هذا الفن، أي المادة الجامدة، لم يطرأ عليه أي تعديل. عرف فن تشكيل الفسيفساء، بأنه أقدم فنون التصوير في العالم. ويعرّف بأنه «فن وحرفة صناعة المكعبات الصغيرة واستعمالها في زخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية». تلك المكعبات المنتظمة، تختلف من حيث الحجم والشكل، ويعتمد شكله النهائي على مهارة الصانع في اخراج اللوحات المميزة ورؤيته الفنية، كتلك التي عرفها التاريخ مثل لوحة «أفروديت» الموجودة في مدينة شهبا في سورية، وفسيفساء قصر هشام في فلسطين. وتطوّر المادة، وتسهيل العمل بها، مثل استخدام السيراميك الأكثر طواعية من الحجر، لا يعني أن اللوحة ستكون أكثر جمالية، كون ذلك يعتمد على «رؤية الفنان ونظرته الفنية «، كما توضح فنانة الفسيفساء اللبنانية دانا عضاضة، مشيرة الى أن تطويع المادة «يتوقف على مخطط اللوحة الذي يفترض استخدام الأحجار الجاهزة كما هي والتي يبلغ حجمها سنتيمترين مربعين، أو قصّها الى حدود النصف سنتيمتر في حالات لفّ الزوايا». واللافت في هذا التشكيل الدقيق، أن خلق المدى الجمالي، يقتضي التنويع باستخدام المادة، كالمزج بين الحجر والسيراميك والزجاج والمعدن في اللوحة ذاتها، وهي تقنيات دخلت حديثاً الى الحرفة، ميزتها عن اللوحات التجارية الجاهزة التي تُحضر في مصانع عملاقة، وتدخل السوق العربية بكثافة. خلال مسيرتها مع الفسيفساء، طوّرت عضاضة تقنيات ميزتها عن الفنانين الآخرين، على ندرتهم في لبنان. شكّلت لوحات عملاقة وُضعت كجداريات في القصور والحدائق والساحات العامة، كما رسمت بالموزاييك، لوحات فسيفساء صغيرة يستعيض بها ذواقة هذا الفن عن اللوحات الزيتية ولوحات الايكليريك. أعمالها التي تراوح فترة تنفيذها بين الشهر والستة أشهر، لا تصدر منها الا نسخة واحدة، وأدخلت هذا الفن الى كل الأماكن، بما فيها المقاهي عبر مجموعة مميزة من صحون النارجيلة. من يدخل مشغلها هذه الأيام، تلفته لوحات ضخمة تُنفّذ لمصلحة مشروع اقتصادي كبير. رسمت مخططه، وبدأت بتنفيذه منذ أكثر من عشرين يوماً. تُقصّ الأحجار بما يتناسب مع موقعها، وتبتكر زواياها لتخلق تسلسلاً منطقياً للوحة. وعلى رغم اللذة التي ترافق ولادة العمل، لا تنفي عضاضة المصاعب الناتجة عن الدقة في تنفيذه، والجهد والوقت اللذين يبذلان لإخراجه بأبهى حلة. وتقول: «هو فن مرهق، وحرفة مجهدة. أقضي اوقاتاً طويلة في المشغل... لكن لا بأس، يستحق الفسيفساء هذا الجهد، فالسحر يأتي على قدر المشقة». والواضح أن هذا الفن بدأ يلقى رواجه، بعد استنزاف كل أشكال الديكور عبر استخدامها في تزيين القصور والحدائق. ووسط اجتياح السيراميك السوق العربية، لتزيين الحمامات والجدران الداخلية، يلجأ البعض الى الفسيفساء اليدوي لتزيين راق. بعض محبي هذا الفن، يختاره بدافع الترف، خصوصاً أولئك الذين لا يجيدون اختيار الموقع المناسب له، ما يتسبب في ضياع بهجته. غير أن عضاضة تنفي أن يكون التزيين به ترفاً، فهو «فن أصيل، أشبه باللوحات الفنية، ويضفي على الأمكنة أفقاً غير محدود من الجمال، ويشغل المساحات الكبيرة بألوان وأشكال لا متناهية».