أظهرت بيانات بنك التسويات الدولية، الذي يوصف بأنه أبو المصارف المركزية، تقلصاً كبيراً في عمليات المضاربة، تمثلت في تراجع ائتمانات القروض، وانخفض الإقبال على صكوك تجارة السلع الأساسية من مؤسسات المال في صورة مشتقات للمضاربة في أسواق المال بنسبة 30 في المئة بين حزيران (يونيو) وكانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي مقارنة مع حركة المبيعات في النصف الأول من العام ذاته. ويشير تقرير البنك الصادر الأسبوع الماضي حول أوضاع المبادلات المالية في العالم، إلى انخفاض المضاربة في أسواق العملات الأجنبية 25 في المئة وتراجع الأسهم المرتبطة بعقود 40 في المئة عن الفترة ذاتها. ويرى خبراء التجارة الدولية أن الأرقام تثير القلق، لأن البنك أعلن أن حجم المشتقات المالية منتصف 2008 بلغ نحو 683.7 تريليون دولار، أي ما يعادل 65 ضعفاً على ما كان في 1992. قلق مشوب بالحذر وتراجع حجم مشتقات مؤسسات المال في النصف الأول من 2008 ليقترب من مستويات الشهر المقابل من 2007، وتراجع حجم ائتمانات القروض إلى أقل مما كان في حزيران 2007، ما يؤشر إلى تراجع الإقبال عليها نتيجة الكساد التجاري العالمي والخوف من عدم تسديد المستحقات المطلوبة في الأجل المحدد. وربما يعود ذلك إلى قلق المصارف وصناديق التحوط ومديري الحقائب الاستثمارية من عدم استقرار أسواق المال وحركة التجارة العالمية، والتريث قبل الخوض في معاملات قد لا تحمل في طياتها أرباحاً بل خسائر فادحة. في الوقت ذاته واصل سعر الفائدة على العقود ارتفاعه لسبب غير مفهوم، لكنه انخفض في الربع الثاني من 2008، ما أغلق على تفسير هذا التوجه الذي يناقض تراجع معدلات الفوائد التي أعلنتها بنوك مركزية عدة مهمة، ويحتمل أن تكون بسبب تقلص المال اللازم لتمويل تلك العقود، في حين أعلنت الدول الصناعية الكبرى عن ضخ بلايين الدولارات لإنقاذ اقتصاداتها، ما يدفع إلى التساؤل عن مصير تلك الأموال الضخمة، إلا إذا كان حجم الخسائر والديون أكبر مما أعلن بحسب رأي محللين. ويتفهم المراقبون في المقابل، تراجع الإقبال على المضاربات في أسواق العملات بعد أن بدا واضحاً أنها تنطوي على أخطار عالية لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في الدول المعنية، والبلبلة حول مصير الدولار كعملة عالمية أسياسية، وما قيل عن الرغبة في إنشاء سلة عملات بديلة له. مراجعة معايير الثقة ويرجح خبراء أن تكون تلك العوامل مجتمعة، السبب الذي أدى إلى مراجعة معايير اختبارات الثقة على المصارف لمعرفة قدرتها على تحمل الأزمات ومواجهة الصدمات، أو لإعادة تفسير المعايير المحاسبية في التعاملات بين أسواق المال على اختلافها، بل يمكن القول أنه تريث تحسباً لما هو أسوأ، فلا تكون مؤسسات المال أو المستثمرون قد ضخوا أموالاً في المكان الخطأ وفي الوقت غير المناسب. ويتزامن صدور التقرير مع إعلان بنك التسويات الدولية، عما وصف أنها مبادئ توجيهية أو معايير اختبارات الثقة حول كيفية تعامل البنوك مع أخطار السوق المتوقعة أو المحتملة، في محاولة لمعالجة نقاط الضعف التي أبرزتها أزمة المال العالمية. وتهدف تلك المبادئ في المقام الأول إلى التأكد من امتلاك المصارف ما يكفي من رأس المال لتغطية الخسائر المحتملة وحماية الأصول التي تمكنها من تلبية التزاماتها. وتتألف لجنة «بازل» التابعة للبنك من محافظي البنوك المركزية من مختلف أنحاء العالم، وأوضحت الأزمة المالية العالمية عن عدم كفاية الإجراءات الوقائية في الفترة السابقة. وتسعى اللجنة إلى ترسيخ ثقافة مواجهة الأخطار لا سيما في كوادر إدارات المصارف وأعضاء مجالس إدارتها مع التأكيد أن تلك الاختبارات يجب أن تستخدم مع غيرها من الأدوات لتحسين إدارة السيولة ورأس المال. ويركز بنك التسويات الدولي على المصارف المركزية الوطنية نظراً إلى مهمتها الرئيسة في ترسيخ الاستقرار النقدي وكبح جماح معدلات التضخم بتحديد أسعار الفائدة على القروض. وتأتي تلك الخطوة بعد اعتراف بنك التسويات الدولي، في دراسة أصدرها مطلع السنة تفيد بأن سياسة البنوك المركزية أدت إلى إثارة عوامل ضعف في ضخ أموال ضخمة من دون مراجعة دقيقة، مثلما فعل الاحتياط الفيديرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي. وينظر بنك التسويات بقلق إلى تراجع قروض البنوك المركزية البينية بنسبة كبيرة، بينما ينتقد المراقبون البنك لتخلّفه عن فرض علاقة متوازنة بين الاقتصاد الحقيقي الواقعي وبين تحركات رأس المال في البورصات العالمية، ما قد يوصف بأنه رضوخ أبو البنوك المركزية إلى رغبات مؤسسات مال كانت يوماً ذات سلطة نافذة.