الزمان: الساعة السابعة و45 دقيقة صباحاً من يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1967. المكان: مركز قيادة الطيران الحربي في اسرائيل. كان رئيس الوزراء ليفي اشكول قد سلم وزير الدفاع موشيه دايان، نص القرار السياسي الذي اتخذته الحكومة بضرورة تسليم العسكريين مهمة الهجوم على القوات المصرية في كل مكان. واختار دايان لتلك الحرب رمزاً مشفراً اختصره باسم «ناهشونيم»، وهو اسم زعيم قبيلة «يهودا» التي تعتبرها الاساطير التلمودية اول قبيلة نجحت في تحقيق الرحيل الجماعي من مصر بقيادة «ناهشونيم». والمؤكد ان القيادة العسكرية الاسرائيلية كانت تسعى من وراء هذا الربط الرمزي، الى اقناع المقاتلين بأهمية دورهم في حرب تحرير الدولة العبرية من وطأة حصار التهديد العربي. ويدعي المدير السابق للاستخبارات العسكرية حاييم هرتزوغ، ان هذا الحافز المعنوي شجعهم على أداء دورهم بمهارة، اضافة الى الدعم العملي الذي وفره الرئيس الاميركي ليندون جونسون عندما وافق على ارسال ذخيرة وقطع غيار نقلت جواً الى اسرائيل بقيمة 70 بليون دولار، علاوة على المساعدات الميدانية التي أمَّنتها طائرات الاستطلاع وأقمار التجسس. ويشدد الكاتب دونالد ناف في مؤلفه الشهير «6 أيام غيرت الشرق الأوسط» على الدور العاطفي الذي لعبته ماتيلدا كريم مع عاشقها المتيّم ليندون جونسون، ذلك انه كان يستضيفها مع زوجها اثناء اندلاع الحرب. وأكد ناف في كتابه أن الرئيس عرّج على غرفتها ليبلغها الخبر اليقين، ثم اعتذر عن عدم تمكنه من مشاركتها وجبة الافطار، لان وزير الدفاع ماكنمارا ووزير الخارجية دين راسك ينتظرانه في المكتب البيضاوي. ثم تبين بعد حين ان اللوبي اليهودي دفع ماتيلدا لمواصلة عملية اغواء الرئيس العاشق بهدف استخدامه للحصول على كل مساندة ومساعدة تحتاجها اسرائيل قبل الحرب. ولدت ماتيلدا غالن في ايطاليا سنة 1928 لأبوين سويسريين، ولما انتهت الحرب العالمية الثانية، كرست الصبية الشقراء معظم اوقاتها لملاحقة اخبار اليهود الذين تعرضوا للابادة الجماعية خلال الحكم النازي. وقد اصيبت في حينه بمرض الاكتئاب والانزواء الى ان وجدت الخلاص بين يدي طالب يهودي بلغاري يدعى ديفيد دانون. ويبدو ان هذا الطالب خدم في عصابة مناحيم بيغن في فلسطين قبل ان تطرده قوات الانتداب البريطاني الى سويسرا. وبدلاً من ان يهتم ديفيد بتحصيل العلم في جامعة جنيف، كرَّسَ وقته مع زوجته ماتيلدا للقيام بعمليات ارهابية لصالح عصابة «ارغون» في ايطاليا وفرنسا. وكان من الطبيعي ان تعتنق هذه الفتاة المتحمسة لقضية اسرائيل، اليهودية كدين قرّبها من زوجها ومن الذين تخدمهم بطاعة عمياء. سنة 1953 انتقلت الحسناء الشقراء مع زوجها ديفيد من جنيف الى تل ابيب، حيث التحقت بمؤسسة وايزمان كباحثة في مختبر للامراض المستعصية. وبعد ولادة ابنتهما، انفصلا حبياً ليتفرغا لامور مختلفة. خلال هذه الفترة الرمادية التقت ماتيلدا في اسرائيل آرثر كريم، وقد اقنعها بأهمية العيش معه في الولاياتالمتحدة. ومن مؤسسة وايزمان في تل أبيب انتقلت الى نيويورك لتعمل في مؤسسة زوجها الثاني كريم، صاحب «مركز سلون – كاترينغ للامراض السرطانية». وبما ان الجالية اليهودية في نيويورك كانت تعتبر كريم من اكرم المتبرعين لمشاريعها، لذلك اولته اهتماماً خاصاً وقدمته للرئيس جونسون كنصير لاسرائيل. وكما تفانت ماتيلدا في خدمة الدولة العبرية ايام كانت زوجة ديفيد دانون، هكذا قامت بالدور ذاته يوم اصبحت زوجة آرثر كريم. وربما ساعدها على النجاح في الولاياتالمتحدة، عشق الرئيس جونسون الذي بهره جمالها وسحرته قصة حياتها. لذلك وصفتها الصحف الاميركية بانها «النسخة الثانية عن مارلين مونرو». وجاء هذا الوصف في معرض المقارنة بين عشيقة الرئيس جون كيندي وعشيقة خلفه ليندون جونسون. والفرق بين المعشوقتين هو ان مونرو لم تكن تتدخل في الامور السياسية، في حين وظفت ماتيلدا غرام الرئيس لتخدم بواسطة نفوذه دولة اسرائيل. ويقول دونالد ناف في كتابه الموثق، إن اشكول ودايان وإيبان، كانوا ممتنين جداً للدور الذي قامت به ضيفة البيت الابيض وزوجها قبل حرب حزيران وبعدها. والسبب ان جونسون المتيّم كان يطلعها على كل البرقيات الديبلوماسية. وكانت هي تعرف من عشيقها انه وعد الزعيم السوفياتي كوسيغين بألا يسمح لاسرائيل بشن حرب مفاجئة بانتظار تسوية النزاع سلمياً بواسطة امين عام الاممالمتحدة يوثانت. ولكنها نقضت هذا التعهد وأقنعت جونسون بإعطاء اشكول الضوء الاخضر لهجوم مباغت على مصر. والثابت ان وزير خارجية اسرائيل أبا إيبان كان هو الآخر يلعب دور المنسق بين اشكول وجونسون، خصوصاً في القضايا الخارجية التي تحتاج الى تدخل الرئيس الاميركي. ومن ابرز مظاهر ذلك التدخل الديبلوماسي السافر، قرار تأخير وقف اطلاق النار على مختلف الجبهات. ومن المؤكد ان فترة التأخير ساعدت القوات الاسرائيلية على احتلال المزيد من الاراضي العربية. وهكذا قدرت مساحة الارض التي احتلتها اسرائيل، اربعة اضعاف ما كانت عليه قبل الخامس من حزيران 1967. اي انه بعد ستة ايام فقط، أمَّنت القوات الغازية في الجولان، شريطاً فاصلاً يبلغ طوله عشرين ميلاً. كذلك اتسع «خصر» اسرائيل الضيق بعد احتلال الضفة الغربية، وانتشار جيشها على طول الحدود الطبيعية لنهر الاردن. كما ادى احتلال سيناء الى اخراج مصر من معادولة التوازن الاستراتيجي سنة 1978، اي بعد احدى عشرة سنة. وكان من الطبيعي ان تستغل اسرائيل انتصارها المدوي لتباشر في اعلان ضم القدسالشرقية على لسان اول من اقتحمها، قائد القطاع الاوسط اوزي ناركيس. وفي اول صورة التقطت له امام حائط المبكى الى جانب موشيه دايان وإسحق رابين، انشد ناركيس اغنية «العودة الى البحر الميت» التي ينشدها الجيش الاسرائيلي. وقد انضم اليهم بعد الظهر رئيس الوزراء اشكول، وهو يحمل رسالة خطتها زوجته لم يلبث ان ان ادخلها بين حجارة حائط المبكى. وقد كتبت فيها القسم المتداول بين يهود الدياسبورا: «ليلتصق لساني في حلقي اذا نسيتك يا أورشليم». يعترف موشيه دايان في مذكراته انه استغل فرصة وقف القتال، ليباشر عملية نشر المستوطنات اليهودية وسط التجمعات العربية في الاراضي المحتلة. والغاية، كما حددها ارييل شارون، تكمن في خلق حقائق على الارض تحول دون قيام دولة فلسطينية موحدة ومتماسكة في الضفة الغربية. ولما استخدم الفلسطينيون القرارين 242 و 338 لمنع بناء المستوطنات، رد شارون بانتهاك القانون الدولي واستكمال بناء جدار الفصل. وعندما رفعت الشكوى الى محكمة العدل الدولية، طالب 13 قاضياً بضرورة تفكيك الجدار والتعويض على المتضررين منه. وكان وزير خارجية مصر نبيل العربي، القاضي العربي الوحيد في محكمة العدل الدولية. وقد استرشد بالمبدأ الراسخ في القانون الدولي بعدم قبول الاستيلاء على اراضي الغير بالقوة. بعد الهزائم التي منيت بها الجيوش العربية في حرب حزيران، استقطبت منظمة التحرير اعداداً كبيرة من المتطوعين. ورأى ياسر عرفات ان الفصائل المرتبطة بالمنظمة اصبحت هي الامل الوحيد لاسترجاع الاراضي المغتصبة. كما رأى ان سلاح المقاومة هو السلاح الأمضى لإثبات تفوق ارادة النضال على الآلة العسكرية الاسرائيلية. بعد مضي 43 سنة تقريباً على تلك الهزيمة، لا بد من التذكير بأن الرئيس جمال عبد الناصر أرجأ اعلان استقالته المرفوضة شعبياً، الى حين اكتشف له «المجمع اللغوي» كلمة بديلة ل «الهزيمة» هي كلمة «نكسة». ولكن التخفيف من وقع تلك الهزيمة لم يمنع الشعوب العربية ولو بعد نصف قرن تقريباً، من اعلان الثورة ضد كل الانظمة التي تخاذلت في حرب حزيران 1967. وما نشهده حالياً فوق الساحات العربية من عنف وعنف مضاد، ليس اكثر من ظاهرة طبيعية افرزتها الهزائم المتواصلة امام عدو عرف كيف يسخّر الدول الكبرى لخدمة مطامعه. في كتابه حول تاريخ الامم، يقول المؤرخ ارنولد توينبي، ان الامم التي تتعامل بلامبالاة في مواجهة التحديات الكبرى، تكون من الامم الميتة. والمؤسف ان العرب، تعاملوا مع هزيمة حزيران 1967، كأنهم ينتمون الى الاموات لا الى الأحياء... * كاتب وصحافي لبناني