اختُتمت الدورة التاسعة والعشرون من «سوق الشعر» في باريس بعدما شهدت نشاطات غزيرة على مدى أربعة أيام تراوحت بين قراءات شعرية وأداءاتٍ وحفلات توقيع كتب. و شاركت في المعرض نحو 400 دار نشر ومجلة شعرية فرنسية وأوروبية. وكالعادة، جذبت هذه النشاطات جمهوراً غفيراً أظهر الحيوية التي ما زال الشعر يتمتّع بها في فرنسا على رغم التجاهُل الجائر الذي يتعرّض له في الصحف والمجلات الأدبية وغير الأدبية. هذا العام، حلّ الشعر الإسكندينافي ضيف شرف على هذه التظاهرة فدُعي 12 شاعراً من السويد والنروج والدانمارك وفنلندا وإيسلندا وغرينلاند وجزر فيرويه للمشاركة في برنامجها. ويبرّر هذا الخيار جهل الفرنسيين وغير الفرنسيين الكامل لهذا الشعر ورغبة منظمي هذه السوق في إكمال صورة المشهد الأدبي الإسكندينافي للجمهور الفرنسي بعدما حلّت الرواية الإسكندينافية ضيف شرف على دورة «صالون الكتاب» الأخيرة. فرصةٌ نستغلها بدورنا للتعريف سريعاً بهذا الشعر على ضوء ما سمعناه ورأيناه خلال هذه التظاهرة. درجت العادة أن ننظر إلى الدول الإسكندينافية كمنطقة جغرافية واحدة مع فروق ثقافية ولغوية طفيفة بين دولةٍ وأخرى. لكن الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك بكثير وتاريخ هذه الدول الحديث يعجّ بالحروب والنزاعات الإقليمية. وهذا ما يفسّر جزئياً الاختبارات المتناقضة التي تميّز الشعر الإسكندينافي مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية. فالتيارات الدولية للحداثة الشعرية دخلت تدريجاً على هذا الشعر بين عامَي 1910 و1930 على يد الرواد الفنلنديين الناطقين باللغة السويدية، مثل إيديت سودرغران وغونار بيورينغ، ثم في الأربعينات، على يد السويديين إيريك لينديغرين وكارل فينبرغ، قبل أن تبلغ الشعراء الناطقين باللغة الفنلندية في الخمسينات (إيفا ليزا مانر وبافو هافيكو)، والشعراء الدانماركيين (كلاوس ريفبييرغ وجس أورنسبرو) ثم الشعراء النروجيين (يان إيريك فولد وإيلريد لوندِن) في الستينات. وتظهر فترة الستينات كمرحلة قطيعة استُكشفت فيها جوانب التقليد الإسكندينافي الحديث بوسائل مختلفة في جميع اللغات المتداولة. وداخل هذه المرحلة يمكننا تمييز استراتيجيتين شعريتين كبيرتين: من جهة، دواوينٌ مكتوبة بلغةٍ شعبية فقيرة بالصور لسعيها خلف النبرة الطبيعية بدلاً من التعبير المنمَّق أو المعقّد، وقد سمّيت هذه النزعة في السويد «البساطة الجديدة»، وفي الدنمارك «النثر المكسَّر». ومن جهةٌ أخرى، بحثٌ حول اللغة بأداة القصيدة نفسها، وقد سُمّي هذا المسعى في السويد «بالشعر الملموس»، وفي الدنمارك «بالشعر المنهجي». وبينما تميّزت مرحلة السبعينات بشعرٍ ذي صبغة سياسية ونضالية كبيرة، نشاهد في الثمانينات تحوّلاً في اتجاه مشاغل شعرية وذاتية صرفة، بدأ في الدنمارك أولاً مع شعر مايكل سترونج التعبيري العنيف أو شعر بيا تافدروب الشهواني وتأملات سورين إولريك، ثم بلغ بسرعة السويد مع كاتارينا فروستينسون التي تعير انتباهاً كبيراً إلى اللغة التصويرية والاستعارة، وآن يادرلوند التي تمدّ قصائدها بإيقاعاتٍ لاهثة، وستيغ لارسون بكتابته المقاومة لأي شعرية، قبل أن يطاول (هذا التحوّل) النروج مع تور أولفين وأويفيند برغ اللذين يشكّل شعرهما امتداداً وتجديداً لتجربة مجلة Profil الشكلانية في الستينات. وفي التسعينات، ظهرت أصواتٌ ذاتية أخرى تتميز بتلاعُبها في هويات الأنا المتعددة، كما في الدنمارك مع شعراء مثل بيا جول وأورسولا أندكاير أولسِن وميتي موستروب، أو في النروج مع الشاعر الناشِط غونار فارنِس، أو في السويد حيث ارتبط هذا التلاعُب بعملٍ واضح على اللغة، كما لدى ماري سيلكيبرغ وفريدريك نيبرغ ويوهان يونسون. بالمقابل، طوّر شعراء من جزر فيرويه منذ الثمانينات شعراً شكلياً ناجزاً على المستوى الفني، مثل يوهان ينسِن وتورودور بولسِن. أما في فنلندا فاختلط شعرٌ مباشر مع النزعة التحديثية خلال الستينات والسبعينات، كما لدى بينتي ساريكوسكي أو كلايس أندرسون وتووا فورستروم، قبل أن تصبح مجلة Nuori Voima نقطة تجمع عدد كبير من الشعراء الشبان في التسعينات، مثل يركي كيسكينين ويوكا كوسكيلاينين وإيلينا سينيرفو. والملاحظ في شعر هؤلاء هو الموقع المركزي للاستعارة الذي يقابله مقاربة اختبارية للغة لدى الشعراء الفنلنديين الناطقين باللغة السويدية. وفي السنوات العشر الأخيرة، شهدت كتابة الشعر في الدول الإسكندينافية عملية تحديثٍ راديكالية أخذت منحى تصوّرياً على إثر الاطّلاع على الشعر الفرنسي الجديد وعلى اختبارات حركة «لغة» الأميركية. وفي هذا السياق، تم دمج عناصر نصوصية داخل أعمالٍ بصرية، كما استخدم الشعراء الإسكندينافيون الصور والأصوات والموسيقى في قصائدهم بطُرُقٍ مختلفة. والهدف من ذلك هو البحث اللغوي، كما لدى النروجي بال بييلكي أندرسِن والسويديين إيدا بورييل وبار تورن، أو تأليف قصائد سمعية، كما لدى الدنماركي مورتِن سونديرغارد، أو تجاوز حدود اللغة، كما لدى الفنلنديين ليفي ليتو وسيا ريني، أو الانقضاض على وحدة القصيدة، كما لدى الإيسلندي إيريكور أورن نوردال ومجموعته.