جرب مثلي أن تبحث عنها في أي مكان أو في أي وقت. لن تجد لها أو عنها أي سيرة بامتداد العصر كله. اسمها «أندورا». وقد جاء اهتمامي بها بعد أن ذكرت مصادر صحافية إسرائيلية أن بنيامين نتانياهو وقع في غرامها فجأة. بعد استخدام مراجع عدة والرجوع إلى كتب متخصصة عثرت أخيرا على ما أريده من معلومات عنها. «أندورا» هى إمارة صغيرة مساحتها 181 ميلاً مربعاً. يعني لا يستطيع المرء رؤيتها على خريطة إلا بميكروسكوب. وهي تقع في جنوب غربي أوروبا حيث تجاورها فرنسا شمالاً وإسبانيا جنوباً. اقتصادها يعتمد على السياحة والرعي وغير مسموح لها بوجود جيش للدفاع عنها حيث تتولى فرنسا وإسبانيا تلك المسؤولية باسمها. وهي ليست لها أي سياسة خارجية رغم أنها على الورق عضو في منظمة الأممالمتحدة بصفتها دولة مستقلة مثل ال192 دولة اخرى. تلك بحد ذاتها إحدى الحيل التي لفقتها السياسات الدولية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مع حفنة أخرى من الدول التي تدخر صوتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة لاستخدامه لحسابها كلما ناسبها ذلك. تماما مثل باربادوس (166 ميلا مربعا) في المحيط الأطلسي ودومينيكا وجزر مارشال في البحر الكاريبي وميكرونيزيا في المحيط الهادئ. والأخيرة لم نسمع باسمها إلا في مرة أو مرتين بمناسبة التصويت على قرار في الجمعية العامة يتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث لم يعترض على القرار سوى إسرائيل وأميركا... وميكرونيزيا. والمناسبة التي جعلت اسم «أندورا» يتردد أخيراً هي الاهتمام المفاجئ بها من بنيامين نتانياهو رئيس حكومة إسرائيل على اعتبار أنه حتى في حالة قبوله بقيام دولة فلسطينية ضمن «حل الدولتين» الذي جددت الإدارة الأميركية طرحه فإن رئيس وزراء إسرائيل يشترط الأخذ بنموذج «أندورا» في الحالة الفلسطينية. يعني: دولة فلسطينية بلا سياسة خارجية ولا جيش ولا سيادة. إنما تصبح مجرد دولة.. على الورق. رئيس الحكومة الإسرائيلية طلب من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما مهلة حتى يعطي تصوره لنوع التسوية التي يقبل بها للقضية الفلسطينية. هو سيعلن ذلك خلال ساعات أو أيام استباقاً للطرح المتكامل الذي قد تعلنه الإدارة الأميركية خلال أسابيع قليلة. الخيار الأول لدى رئيس حكومة إسرائيل هو رفض قيام دولة فلسطينية. فإذا لم يكن هناك مفر من قيامها، إذن فلتصبح على نموذج أندورا. دولة لها علم ونشيد وطني ونقاط حدودية لكن بلا جيش ولا سيادة ولا حتى رسوم جمركية، حيث ستتولى إسرائيل ذلك باسمها، وربما بمشاركة شكلية من الأردن في حالة الضفة الغربية ومصر في حالة قطاع غزة. هذا إذن زمن التلفيق والتحايل والحلول البهلوانية التي شهدنا منها الكثير في حكومة نتانياهو الأولى (1996/1999) بهدف استهلاك الوقت لحساب خلق وقائع جديدة تجعل حل الدولة الفلسطينية يتآكل يوماً بعد يوم إما من داخلها أو من خلال التوسع في المستوطنات الإسرائيلية.. أو بكليهما معاً. الرئيس الأميركي باراك أوباما جدد الدعوة إلى قيام دولة فلسطينية ضمن حل الدولتين. وهي دعوة سبقه إليها الرئيس السابق جورج بوش في 2002. بل إن جورج بوش - حتى - وضع تاريخاً محدداً لقيام تلك الدولة الفلسطينية هو سنة 2005 أولاً ثم تأجل إلى سنة 2008. وها هو جورج بوش غادر البيت الأبيض من دون أن يصدق في الدعوة أو التواريخ المعلنة لقيامها. كل ما حدث على الأرض هو المزيد والمزيد من الاستيطان الإسرائيلي. والأمر هنا لم يتعلق بيمين أو يسار في الخريطة السياسية الإسرائيلية. فحسب التقارير الإسرائيلية ذاتها فإن التوسع في المستوطنات خلال الثلاث سنوات التي قضتها في السلطة الحكومة السابقة برئاسة إيهود أولمرت شهد ازدهاراً غير مسبوق في ظل الحكومات السابقة، حيث زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية (عدا القدس) بخمسين ألفاً، أي عشرين في المئة. وحينما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما ضرورة تجميد الاستيطان الإسرائيلي وألح على ذلك مبعوثه جورج ميتشل، لم يرفض رئيس وزراء إسرائيل صراحة وإنما استعاد أسلوبه المعتاد من التحايل، قائلا إنه ربما يزيل «البؤر الإستيطانية» التي جرت إقامتها بشكل «غير شرعي».. لكنه لا يستطيع منع النمو الطبيعي في المستوطنات الأخرى. شمعون بيريز رئيس إسرائيل دخل أيضاً على الخط بادئاً كعادته باستخدام كلمات فخمة وضخمة من نوع «إنها فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتحقيق السلام في المنطقة» متطرقاً إلى الاستيطان في الأراضي الفلسطينية قائلاً «إن ثمة قبولاً في إسرائيل بوجوب تفكيك البؤر الاستيطانية غير القانونية.. بينما في مسألة البناء في المستوطنات الكبيرة لسد حاجات النمو الطبيعي يجب مواصلة الحوار». يعني بيريز بدأ بالسلام والفرصة التاريخية لينتهي إلى تكرار ما يقوله نتانياهو نفسه. لكنه - أي بيريز - أضاف أيضاً القول بأن «التمحور في قضية واحدة - الاستيطان - من مجمل القضايا التي يتوجب حلها لا يخدم العملية السياسية الأوسع المفترض أن تحدد جدول الأعمال بين إسرائيل وجاراتها». يعني.. الثمن الذي تريده إسرائيل ليس على حساب الفلسطينيين فقط وإنما على حساب دول عربية أخرى أيضاً. هذا التلفيق ليس جديداً فقد سبق طرحه بعد مؤتمر مدريد في 1991 حين جرى التحايل على مسار المفاوضات بين إسرائيل والأردن والفلسطينيين وسورية بتلفيق مسار مواز تحت عنوان المفاوضات المتعددة الأطراف. وقيل في حينها تبريراً لذلك إنه بافتراض أن التسوية قد تمت على المسار الفلسطيني فإن المفاوضات الموازية تضم إسرائيل ودولاً عربية زائداً أميركا واليابان ودولا أخرى لوضع مشاريع يقوم على أساسها «الشرق الأوسط الجديد». هناك أربعة مؤتمرات جرت على هذا النحو وكان آخرها في قطر. واتضح في نهاية المطاف أن ما تسعى إليه إسرائيل هو تطبيع العلاقات - أو بالدقة إنشاء العلاقات - مع العدد الأكبر من الدول العربية زائداً الدخول في مشاريع اقتصادية وسياحية وتجارية مشتركة. وصل الأمر أيضاً إلى طرح إسرائيل مشروعاً بإقامة بنك إقليمي للشرق الأوسط يكون هو الذي يحدد مسارات التنمية التي يجب على كل دولة اتباعها بما يجعل إسرائيل في النهاية هي القوة المهيمنة وصاحبة السطوة الاقتصادية في المنطقة وبأموال الآخرين، يعني أموال العرب أنفسهم. الرئيس الأميركي باراك أوباما ألمح أخيراً إلى ترحيبه بالمبادرة العربية المطروحة منذ سنة 2002 مشدداً على أن مسؤولية العرب لا تنتهي عندها. وقد خشي كثيرون أن يستغل أوباما خطابه في القاهرة في الرابع من هذا الشهر لطرح تلك المطالبات الإضافية من الدول العربية. ويبدو من الواضح أنه أجّل ذلك حتى لا يقلل من التأثير المطلوب لخطابه. لكن وزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان اختار أن يبدأ بالترحيب بما أسماه «المقاربة الإقليمية» المطلوبة من جانب الرئيس الأميركي و «محاولته التوصل إلى اتفاق ليس بين إسرائيل والفلسطينيين وحسب، إنما إلى تسوية إقليمية تشارك فيها كل القوى البناءة في المنطقة التي تعي أهمية التعاون المشترك». ثم استدرك قائلاً إنه يؤمن بأنه لا يمكن فرض سلام، وثمة محاولات لقلب الأمور رأساً على عقب. يجب أولاً بناء الأسس للسلام مثلما يتم أولا بناء أساسات البيت وليس من السقف. والترتيب الصحيح في رأيه هو «الأمن ثم الاقتصاد المستقر وبعد ذلك العملية السياسية» مضيفا: «إن كل محاولة لقلب هذا الترتيب ستفشل مثلما فشلت سابقاتها». لكن في هذه المرة طرأ جديد في المعادلة. هناك إدارة أميركية جديدة تضع بين أولوياتها الخارجية تصحيح العلاقات التي خربتها إدارة جورج بوش مع العالمين العربي والإسلامي وفي المقدمة استعادة بعض التوازن في الجانب الفلسطيني من سياساتها من خلال مفاوضات تريدها غير مفتوحة زمنياً كما في السابق. والأسابيع القليلة المقبلة ستكشف عن مدى الجدية في طرح الإدارة الأميركية الجديدة. وستكشف أيضا عن امتحان آخر للعرب في هذه المرة: هل يستردون إصرارهم على انسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود 4/6/1967 أو ستنجح إسرائيل من جديد في إبعادهم عن صلب الموضوع.. وإلهائهم بالفتافيت؟ * كاتب مصري