في مقاربته في «الحياة» (20 ايار /مايو 2009) يقول محمد جابر الأنصاري أنه «لم يبق أمام العرب والمسلمين إلا النهوض بإسلام تجديدي متحرر متسامح ومعتدل، لأن إخفاقهم في ذلك يعني خسارة المصير والمستقبل حيث لم تبق أمامهم خيارات أخرى... إسلام يتفهم طبيعة العصر ويمكّن المسلمين من مواجهته والتعايش معه». الخيارات الأخرى التي جربها العرب بحسب تحليل الأنصاري هي «التغريب الخالص» والبحث عن الخلاص عن طريق «تفسير متشدد ومتطرف للإسلام». من المؤكد بطبيعة الحال أن مناقشة أفكار وطروحات كبيرة عن التغيير تتعرض لابتسار مخلّ في المعالجات الصحفية، والمقالات القصيرة، بما لا يعطيها حقها من العمق والشرح والتوضيح. ومع ذلك فإن خيار «الإسلام التجديدي المتحرر والمتسامح والمعتدل»، وعلى إغراء الأوصاف المستخدمة هنا، يستحق النقاش، خاصة أنه لا يتعدى الشعار ولم يترجم الى الآن إلى ما يُشبه البرنامج السياسي والاجتماعي المُقنع. وهو على العموم خيار يواجه صعوبات كبيرة تستحق التأمل فيها. أولى هذه الصعوبات تاريخي وفكري له علاقة بالسجال الطويل حول دور الدين، أي دين وبما في ذلك الإسلام، في الحياة العامة وفي السياسة. حتى الآن لم يُحسم هذا السؤال إسلامياً، وسواء في دوائر «الاعتدال الإسلامي» أم «التطرف الإسلامي» فإن الإسلام يُنظر اليه بكونه الحامل الأساسي للعملية السياسية. ومن ناحية موضوعية بحتة، وغير سجالية، لا يمكن النظر الى آلية منح الدين الموقع الحاسم في السياسة، سواء من منطلق تطرف أو اعتدال، إلا على أنها منتجة لنهاية غير معتدلة، بل فيها تطرف كبير سيظل يُراوح بالعرب والمسلمين بعيدا عن «تفهم طبيعة العصر... والتعايش معه». طبيعة العصر والمرحلة التاريخية التي تعيش فيها البشرية، والنماذج التي نجحت إلى هذه الدرجة أو تلك في الوصول إلى معادلة سياسية واجتماعية داخلية، تؤمن السلام المجتمعي بعيدا عن العنف، وتوفر مناخات للتقدم، وتحقق الحدود الدنيا من العدالة والمساواة والحرية، هي النماذج التي قامت على علمنة السياسة وإقصاء الدين من الحيز السياسي. ثانية تلك الصعوبات التي يواجهها خيار، أو شعار، «الإسلام المتسامح والمُعتدل» متعلق بالمضمون. فمن ناحية عملية وفكرية وسياسية لا يمثل هذا الخيار أكثر من حالة ومناخ عام مرغوب، ولا يتضمن أطروحات سياسية واقتصادية تترجم على شكل سياسات وتوجهات وبرامج. والهم الأساسي والنية الحسنة وراء هذا الشعار مفهومة، إذ تريد النأي بالإسلام والمسلمين عن التوحش «القاعدي» وتمثلاته التي انحطت بصورة العرب والمسلمين أمام أنفسهم وضميرهم التاريخي، قبل أن يكون ذلك أمام الآخرين. «الإسلام المتسامح والمعتدل» الذي كانت تدين به الشعوب المسلمة في مجملها العام قبل بزوغ حركات الإسلام السياسي وانفلات غول التطرف كان النمط العفوي للحياة، وكان خلفيتها الشعبية التوافقية المتناغمة وغير المُقحمة ولا المُفتعلة. وفي قلب تلك الحالة الشعبية العامة كانت أنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي أنظمة علمانية الممارسة والجوهر. ما حدث في القرن العشرين أن حركة التسييس الواسع للإسلام أرادت منه أن ينتقل من التدين الشعبي إلى سدة الحكم. لكن تلك الحركة لم تستطع أن تجيب على السؤال التاريخي والمهم وهو: لماذا تعلمنت السياسة الإسلامية عملياً وتاريخياً وانحسر دور الدين إلى التدين الشعبي «المُعتدل والمتسامح»؟ هالها أن تواجه الإجابة المُفجعة والتي جوهرها أن حركة التاريخ البشري أعقد بكثير من أن يتم التحكم بها دينياً، أو السيطرة على كثافة وتداخل واتساع نطاقاتها من خلال أية أيديولوجيا مسبقة الترسيم لمسارات المستقبل. حركة التاريخ والبشر يقع في قلبها ويحكمها جبروت منطق المصالح وبراغماتيتها، وهو منطق يُعيد تشكيل وانتاج الأيديولوجيات والأديان والأفكار الكلانية لتعاود الاقياد لإملاءاته. ثالثة الصعوبات التي تواجه خيار «الإسلام المتسامح والمعتدل» لها علاقة بالتمثيل: من يمثل هذا الطرح ومن يحمله، خاصة وأن الكل يتغزل به. الأنظمة العربية والمسلمة، وفي غالبيتها الكاسحة ديكتاتوريات راسخة، تزعم تمثيل هذا الإسلام. الحركات الإسلامية غير المسلحة، وخاصة القريبة من مدرسة الإخوان المسلمين، تزعم تمثيل هذا الإسلام. مجموعات المفكرين والمثقفين الإسلاميين النقديين لمسارات كثير من الحركات الإسلامية تزعم أيضا تمثيل هذا الإسلام. وجانب من المشكلة هنا أن هذه الأطراف التي تريد الانتساب للمدرسة التسامحية الإعتدالية من الإسلام نفسها تنفي شرعية بعضها بعضا، ولا تقبل الزمالة في المدرسة نفسها. كل الأنظمة العربية، تقريباً، لا ترى في الإخوان المسلمين «اعتدالا وتسامحاً». وكل فروع الإخوان المسلمين وتنظيماتهم لا ترى في الأنظمة القائمة ممثلة شرعية للإسلام المتسامح والمعتدل. والمثقفون الإسلاميون في الغالب لا يقرون، بهذه الدرجة أو تلك، بانتساب كل من الأنظمة وتنظيمات الإخوان ل «الإسلام المتسامح والمعتدل». رابعة الصعوبات التي يواجهها خيار «الإسلام المتسامح والمعتدل» على غموضه الشديد وسيولته التعريفية الجارفة، مرتبطة بالتمثيل أيضاً، وتحديداً لجهة تأكيد الأنظمة العربية والمسلمة على تمثيله وترويجه. ففي هذا التمثيل والترويج تكمن كل شرور نزع الصدقية وتدمير الشرعية. وتجدر هنا الإشارة إلى خلافية ما يقوله الأنصاري عندما يكتب: «ولا بد من التنبيه إلى أن «الاعتدال الإسلامي» صار معرضا للاختطاف ما لم يعض عليه العرب والمسلمون بالنواجذ. وإذا بقيت الأنظمة والتيارات العربية والمسلمة في مواقع المتفرجين، واكتفت بالنظر إلى ما يجري، فإن البساط سيسحب من تحت أقدامها، وستجد نفسها في مسرح لا تستطيع التأثير فيه». والمشكلة هنا هي الطلب من الأنظمة أن لا تبقى في مواقع المتفرجين، وهي عمليا الفاعل الأكبر والأهم في قتل الاعتدال والتسامح بسبب تطرفها وراديكاليتها وطبيعتها القمعية. لا يمكن قبول ادعاءات هذه الأنظمة بكونها الممثلة والمدافعة عن «صورة الإسلام المتسامح والمعتدل» وسجلاتها تحفل بكل ما هو عكس التسامح والاعتدال. فجوهر الصورة هنا هو أن هذا الادعاء لا يتعدى كونه ممارسة للدبلوماسية والعلاقات الخارجية، الغزلية والانتهازية، مع القوى الغربية التي تخشى ما هو أسوأ من هذه الأنظمة والمتمثل في قوى الأصولية الإسلامية. طرح «الاعتدال الإسلامي» كبديل عن فشل خيار التغريب الخالص، كما يحلل الأنصاري، يفتقد إلى مضامين عديدة، ويحتاج إلى تفكيك لصعوبات فكرية وسياسية متنوعة، يتجاوز نقاشها هذه العجالة. فهناك ابتداء جدل مشروع حول تقييم فشل «خيار التغريب الخالص»، أين كان ذلك التغريب حقاً؟ وهل طبق فعلاً خيار يمكن أن يوصف ب «التغريب الخالص» في أي من بلاد المسلمين؟ حتى الحالان التركية والتونسية وهما الأقرب إلى هذا الوصف، يصعب نعتهما بذلك من دون القول «تغريب، ولكن». وحتى في هذه الحالات المنقوصة يمكن القول أن تركيا، في السياق الإسلامي، هي الأكثر حداثة وتقدما ونجاحاً بين الدول المسلمة - ألم يكن هذا النجاح بسبب «التغريب»؟ كما أن مفهوم «التغريب» نفسه، وقد تطور حاملاً كل الشرور والآثام والإيحاءات السلبية، ليس له تعريف محدد، ولا حدود واضحة. فما هي مثلا تمظهرات التغريب حتى نقرر إن فشل أم لا، وأليست هي صيرورات ما زلنا نعيشها ونستوردها ونعيد إنتاجها سياسة، وإقتصادا، وبيروقراطية، وأنماط حياة؟ وأين يقع «التغريب» من الحداثة والتحديث، وهل هناك بالفعل جدران بين الإثنين تمنع تسرب الأول إلى الثاني؟ أم أن ما هو حادث في واقع الأمر حالة تاريخية مهولة من الانفصام والإنكار الجماعي إزاء الغرب والتغريب، قريبة وشبيهة بما كان قد ناقشه المفكر الإيراني داريوش شايغان حول الشيزوفرينيا الإسلامية والغرب. «الاعتدال والتسامح الإسلامي» هو الوعاء والمناخ المطلوب لاحتواء «الاعتدال العلماني» المُناط به تنظيم الاجتماع البشري وفق «روح العصر» وما توصلت إليه خبرات الشعوب. هذه الروح وهذه الخبرات تقول إن الحرية وكرامة الفرد هما نقطة الانطلاق، وإن المساواة التامة بغض النظر عن العرق والجنس والدين واللون هي إطار التعايش، وإن الشعب مصدر السلطات، وأنظمة الحكم خادمة للأفراد وليست متحكمة بهم، وإن الصراع بين القوى المتنافسة سواء على المصالح أو الحكم داخل أي تجمع بشري يجب أن يكون محكوماً بوسائل مدنية وآليات تقر الصراع السلمي ولا تقر العنف الدموي، وكلها محكومة بتنافس وفق طروحات يتم دعمها أو رفضها بناء على معايير مصلحية وليست غيبية. هذه الديناميات تحكمها الديموقراطية والإعلام الحر، وكلاهما ما زالت فيه ثغرات كبيرة، لكنهما معاً أفضل ما تم التوصل إليه حتى الآن من وسائل للاجتماع البشري المتسيس. من دون الإقرار بروح العصر هذه وبمكوناتها التي تخلق مناخات الحرية والابتكار والتنافس الحر، واللحاق بها من بوابة علمنة السياسة أولاً، فإننا كعرب ومسلمين سنظل نراوح في مكاننا ونندب حظنا ونحاول أن نخلق من الماضي حلاً للمستقبل في تمرين سوريالي متكرر الفشل يبعث على البؤس والرثاء معاً. * باحث وأكاديمي أردني فلسطيني - جامعة كامبردج [email protected]