اوباما يتمايز عن بوش، يناقض سياسته؛ إستراتيجية جديدة، مصلحة اميركا، كيفية الخروج من مستنقع العالم، بعدما تبعثرت فيه قوات السلاح الاميركي، ولم تلاق الا اخفاقاً بتحقيق الهدف من إشهاره. في خطابه بجامعة القاهرة، ثبّت الرئيس الاميركي الجديد الاطار «المفهومي» لهذه الاستراتيجية. وفحواها ان النهج الامبريالي لن يكون بعد الآن عنيفاً؛ وبأن الاسلام ليس عدواً، بل مرج؛ وبأن نزع فتيل الحرب البوشية الفاشلة على الارهاب يمر عبر هزّ الاسس الذهنية لكراهية اميركا. وهو لديه من المقومات الشخصية جداً التي تسمح له بالتناقض مع طبائع سلفه الصِدامية. من لون البشرة الى الجذور والجاذبية والسيرة. فأوباما مزيج من التقاطعات الدينية والعرقية والإثنية والثقافية. والذي حمله الى الرئاسة، في بعض النواحي، هو الوسط الاميركي الأكثر ليبرالية في الثقافة والاجتماع خصوصاً. وسطٌ هو الاقل «تجانساً»، والاقل اهتماماً ب «امن اسرائيل القومي». والأكثر ميلاً الى التحرر وفتح الحدود واسعة امام التنوع والاختلاف لذلك فإن وجهة خطابه الى العالم الاسلامي تحمل على مفارقة. فبعد رسالة عيد النوروز الى الايرانيين، وخطاب الى الاتراك في برلمانهم، ها هو يوجه رسالته الثالثة الى الباقين، الى «العالم الاسلامي»؛ ومن على منبر جامعة القاهرة (لا برلمانها، الأكثر عراقة من جامعتها...). وهذا الالتباس الاوّلي المعلّق في تعريف من هو هذا «الاسلامي» يسمح بالتخمين بأن المقصود ب«الاسلامي» هنا هم العرب والمسلمون الآخرون غير العرب (لم يذكر الاعلام «ممثلي المجتمع المدني» المدعوين الى الاستماع للخطاب والآتين من كل الدول الاسلامية أو ذات الغالبية الاسلامية). واذا اخذنا «المكان» الذي اختاره اوباما لإلقاء هذا الخطاب، والمحطة السعودية لزيارته الى القاهرة، فيمكننا الامعان في التخمين والقول: ان اوباما يتوجه في هذا الخطاب الى العرب خصوصاً، على رغم «الضيوف» المسلمين الآخرين. الاسلام: ذلك هو الوسيط الهوياتي الذي يخاطبنا عبره اوباما. وذلك بالتناقض الصريح مع الافكار والميول التي صعّدته الى سدة الرئاسة الاميركية. واوباما لم يتوقف عند ذلك. بل خاطب هذا «العالم الاسلامي» بنفس لسانه؛ دغْدغ هذا الهوية الدينية، فطبع معتنيقها بها، ونفخ فيهم روح التماهي... «السلام عليكم»، «ابي المسلم»، «اميركا والعالم الاسلامي»... ثم الآيات القرآنية الكريمة. كل ذلك اصاب الهدف. واولى بشائر الاصابة، التصفيق العالي الذي لاقته محاولات التماهي هذه. وعندما تناول التعدّد، لم ير غير التعدّد الديني، «الاقباط» و «الموارنة»؛ او مذهبياً، «شيعة وسنة» (فوق الرخاوة الرمزية الاضافية تجاه الاقباط، المتمثلة بزيارته النُصب التاريخية الاسلامية والفرعونية؛ فيما عزف عن القبطية). لم ير اوباما في «العالم...» الذي يوجه اليه خطابه تعدداً ثقافياً او عرقياً او اثنياً او سياسياً، وخصوصاً، خصوصاً، تعدداً وطنياً. بل كتلة واحدة مختزلة الى هويتها الدينية. خطاب يتوجه الينا، ويتصور، من اجل تهدئتنا، من اجل الهدنة، أن التبرّك بسلوك «الرؤساء المؤمنين» نازعي فتيل العنف الديني بالمزايدة الدينية هو النهج الأنجع معنا. انها الطريقة الوحيدة الآن لإيقاف مدّ الكراهية الراهنة بعد 11 ايلول (سبتمبر) والحرب البوشية الفاشلة على الارهاب. شيء من الحيل الامبريالية المعادة، لكن بصيغ اكثر اقناعاً وترحاباً. والفرق مثلاً بين نابوليون بونابرت وبسْملاته المعروفة ومغازلته الاسلام وادعائه القدوم الى مصر من اجل الدفاع عنه منذ قرنين... وبين خطاب اوباما في جامعة القاهرة: ان بونابرت لم يكن يعلم من الاسلام غير ما علمه اياه علماؤه؛ فيما اوباما شكل الاسلام بالنسبة اليه احد مكونات شخصيته الفردية، وهو ابن جيل عملية 11 ايلول، الاسلامية الادعاء. واحدة فقط من هذه المكونات يحولها اوباما عندما يتوجه الينا الى مكون واحد وحيد، «العالم الاسلامي». هذا الخلط بين الدين والدنيا عندما يتعلق الامر بنا، في الرسائل والخطب الموجهة الينا، يتعارض مع توجهات اوباما الشخصية والثقافية. ولكن ماذا يفعل لينفصل عن بوش ويؤسّس لسياسة جديدة مختلفة مع «العالم الاسلامي»؟ يهدئ هذا العالم المؤيد للتطرف الديني عبر تطمينه «أنا مثلكم. انتم مثلي». اولاً. فلا شيء يخفف من غلواء هذا «العالم» اكثر من الاشادة بهويته الوحيدة التي يشْهرها الآن. انت مسلم؟ احب دينك الذي هو بمعنى ما ديني انا ايضاً. احترمه واستشهد بآياته الخ. الذي لم يتغير عن عهد بوش في مسألة الهوية هذه، هو اننا ما زال يُنْظر الينا بصفتنا مسلمين فحسب. اما الفارق فهو انه بدل «صدام الحضارات» الذي تهوّر به بوش وجرّ معه اميركا والعالم، يقترح علينا اوباما «حوار الاديان». اسلوب الهدوء بدل الصورايخ والغزوات. هل كان بوسع اوباما ان يعترف بأوجه هوياتنا الاخرى ويتوجه الينا بصفاتنا الاخرى العديدة والمختلفة؟ بصفتنا، مثله، كائنات بشرية مركبة ايضاً؟ سؤال يجرّ آخر: اين هم العلمانيون من بيننا؟ اين الديموقراطيون؟ اين اصحاب الحقوق المدنية؟ اصحاب الثقافات المهمشة؟ الخ اوباما يكبّر عقله. وهو بذلك يرتكب مفارقة ثانية، لا تقلّ عن الاولى تعارضاً مع شخصيته السياسية. حول الديموقراطية: كان بوش يريد تصديرها الينا. وبدايته كانت غزو العراق. على الاقل كان خطابه يفصح عن ذلك... لكي لا ندخل في ترهات «صدقه» أو «كذبه» التي دارت حول ارادة التصدير هذه. هذا عن الرئيس اليميني المحافظ؛ اما اوباما، الديموقراطي الليبرالي، فيريد الستْرة؛ علّمته تجربة بوش ان تصدير الديموقراطية استراتيجية خاطئة: «لا يمكن لأي دولة ولا ينبغي لأي دولة ان تفرض نظاماً للحكم على اي دولة اخرى» الخ. وهو في الوقت نفسه يغمز في قناة المعارضات المختلفة، الاسلامية، بغالبيتها، بإتهامها بالنفاق حول نيتها الديموقراطية. «البعض لا ينادون بالديموقراطية إلا عندما يكونون خارج مراكز السلطة...». يأخذنا على قدْ عقلنا. وايضاً على قدْ مؤسساتنا واحزابنا وطاقاتنا الايجابية، النادرة. الاستقرار والسلام: واي تغيير يهددهما، كما تعلم من العراق وغزة والصومال ولبنان... المصلحة: مصلحة اميركا تقتضي بأن لا يعكر صفو الانظمة واستقرارها بتغيرات ثورية. «الثورة»، أو التغيير، مؤجل في «العالم الاسلامي»، الذي هو نحن. ريثما تكتمل مقومات التغيير في اميركا نفسها. هذا اقصى ما يمكن ان تمنحه الامبريالية الاميركية، مقابل ابقاء القيادة بيدها، والتّنعم بالاستقرار والخروج من الازمة الاقتصادية بأقل الخسائر الممكنة. اذاً، اميركا تعرف الآن ما تريد، بعد بوش. انسحاب من الحروب. إعطاء الفلسطينيين حقهم الادنى، الدولة؛ انهاءً لمستغلي عذاباتهم. اميركا تغيرت فعلاً. وهذا التغيير لا بد ان ينطوي على التناقضات والمفارقات، هذا من طبيعة العمل نفسه، مهما بعث من الرضا والارتياح النسبيّين. اما نحن فلم نتغير. نحن على ما كنا في ايام بوش الابن، وكلينتون ثم بوش الأب. مع التفاقم الخطير لعيوبنا. ومع ذلك، فلنطرح على انفسنا السؤال، بعد الاشادة بالخطاب او الحط من صدقه: نحن، ماذا نريد؟ ومن اميركا؟ بعدما ملأنا الدنيا صراخاً بضرورة تدخلها؟ هل نعرف نحن ما نريد؟ ثم نحن، من نحن؟ هل يحق فعلاً لأوباما ان يختزلنا الى «عالم اسلامي»؟