ارتبط المقهى تاريخياً بإنتاج العلوم الإنسانية، كما ارتبط ببث روح الجمال وبإنتاج الفنون بمختلف ألوانها. يؤرخ د.عبد الرحمن بدوي لبدايته منذ القرن السادس عشر، عندما كان الأدباء والفنانون في فرنسا يجتمعون في المقاهي للحوار والنقاش، فيتحدثون مرةً في الشؤون العامة ومرات في الأدب والفن والفلسفة والعلوم. إذ كانوا يجدون في المقهى الملاذ الآمن والمُبهج لشرح آرائهم واختبار نظرياتهم وعرض إبداعاتهم، وكانوا يعتبرونه فرصة لتوطيد العلاقة بالمعرفة، ولمخالطة الناس وبالتالي استيحاء موضوعات كتابية أو أشكال إبداعية أو إجراء اختبارات للنظريات والفلسفات. وربما كان من أشهر المقاهي الفرنسية المرتبطة بالأدب والفن، بحسب عبد الرحمن بدوي، هما مقهى «بروكوب» ومقهى «الوصاية». واشتهر «مقهى الوصاية» ذاك حينما أخذ منه الكاتب ديدرو إطاراً لأقصوصةٍ تهكمية بعنوان «ابن أخي رامو»، عام 1774، وهي تتمحور حول حوار لاذع، جرى في المقهى نفسه، بين الفيلسوف ديدرو وبين بوهيمي ساخر هو جان فرانسو رامو. وبعدما حلّت «الندوات الأدبية» محل المقاهي الأدبية، في عهد الدومينيك الفرنسيين، عادت إلى المقاهي الأدبية الحركة والازدهار على أيدي الشعراء الرمزيين الذين اتخذوا من «مقهى فولتير» مقراً لهم، ثم جاء بول فور فاتخذ من مقهى بجادة مونبرناس منتدى أدبياً يعقد جلساته الدورية فيه. أما «مقهى بروكوب» الذي أنشئ في عام 1700، فقد أصبح، في الثلث الثاني من القرن الثامن عشر، أشهر مقهى أدبي وسياسي على الإطلاق، وكان يتردد عليه فولتير الذي دأب على الجلوس على طاولة بعينها ظل المقهى يحتفظ بها على أنها «طاولة فولتير» حتى بعد وفاة الروائي الكبير عام 1778. كما كان يتردد على المقهى نفسه كل من ديدرو، ودالمبير، وبوفون، وجان جاك روسو. أما قبيل قيام الثورة الفرنسية، عام 1789، فقد انتقلت ملكية المقهى إلى شخص آخر، وراح يتردد عليه كبار رجال الثورة الفرنسية، ويقال إن «الطاقية الحمراء» - رمز الثوريين الفرنسيين ظهرت للمرة الأولى في هذا المقهى. ومثله مقهى «فاشت»، وكان يسمى قبلاً «مقهى العظماء» إذ لطالما غصّ بأدباء القرن التاسع عشر. يقول بدوي إن الكثير من هؤلاء الأدباء كانوا يؤلفون كتبهم وقصصهم ومقالاتهم النقدية والأدبية في تلك المقاهي، حيث تأسس أيضاً الكثير من الحركات والمجلات الأدبية، وسرعان ما انتشرت ظاهرة المقاهي في أنحاء أوربا عموماً. أما على مستوى علاقة المقاهي بالحركة الفكرية الفلسفية، فقد تجلّت بشكل لافت في ألمانيا، خصوصاً بين «الهيغليين الشباب» (أو ما يسمّى باليسار الهيغلي)، والذين كانوا بين الظواهر الأبرز في ألمانيا. يقول أنور مغيث في بحث له عن «الهيغليين الشبان»: «نتساءل من هم؟ ويتفق الجميع على أن منهم دافيد شتراوس وبرونو باور وآنسلم وفيورباخ وتيودور فيشر وأرنولد روج وماكس شترنر، وما يهمنا هنا أن ظاهرةً جديدة على ألمانيا بدأت معهم، فهم ابتكروا عقد الندوات والحوارات في المقاهي وكان الحديث يعلو أحياناً ويسود الشجار في أحايين، حتى شبههم لوفيت بالسوفسطائيين في أثينا». ويرى علي حرب في مقالة له بعنوان «المقاهي رئة المدينة» أن المقهى جزء لا يتجزّأ من حياة المدن ونشاطها الحيوي، وهو أحد الأنشطة المدنية حيث يلتقي أصحاب الاختصاصات والمهن المختلفة، ويصف المقهى بأنه «يلبي حاجة أساسية بقدر ما يشكل فسحة لا غنى عنها خارج المنازل وأماكن العمل وهذا ما تفيدنا به الأنباء الواردة من أسبانيا التي تقول بإن الأسبان يصرفون على المقاهي أكثر مما يصرفون على الحاجات الضرورية كالتعليم والطبابة»! وإذاً، وبلمحة بسيطة من تاريخ المقاهي، لا سيما في أوروبا، يستذكر المرء رافداً مدنياً وعفوياً من روافد التنوير. ونرى كيف أن الفعل المدني الشعبي قد يؤثّر أكثر بكثير من المؤسسات الثقافية الرسمية التي يلفها الغبار والنوم. وربما يكون للإعلام الحديث والإنترنت الأثر الأكبر اليوم على دور المقاهي في العصر الحديث. إلا أن ما لا يتغير هو تلك النكهة الحرة للمقهى، يوظفها روادها كيفما شاؤوا.