لا يمكن لأي متابع للحراك الصحوي إلا وتستوقفه الأناشيد بوصفها تعبيراً عن الحالة الفنية، التي استطاع من خلالها هذا التيار أن يوصل بعض أفكاره ويعايش الأحداث ويشحذ الهمم ويقدم البديل المشروع من وجهة نظره. صحيح أن الإنشاد لم يكن يلقى كثيراً من القبول بين الأوساط السلفية التقليدية وتحديداً السلفية الجهادية، ولكن تم التغاضي عنه من أجل أن يكون داعماً إعلامياً للقضايا التي يؤمنون بها ومسوقاً لها عبر أشرطتهم وتسجيلاتهم. وعلى رغم أن الإنشاد مر بمراحل مختلفة، إلا أن الكل يكاد يتفق على أن الجهاد الأفغاني كان هو الحاضن الأم لثورة الإنشاد وصبغه بصبغة معينة، جعلته خالياً من الإيقاعات، على رغم وجود اختلاف في هذه المسألة، وكذلك يتناول مواضيع الجهاد في المقام الأول، وكان يندر حتى بعد انتهاء الجهاد الأفغاني أن تجد أناشيد تتناول مواضيع اجتماعية، ناهيك عن أن تستمع لأناشيد وطنية كما هي الحال اليوم. وقد برزت أسماء محلياً في هذا العالم بسبب ما قدمته من أناشيد حماسية تركت أثراً بالغاً وما زالت إلى اليوم تحظى بشعبية جارفة، ومن هذه الأسماء سلطان الدوسري (أبو عبدالملك) وموسى العميرة (أبو علي) وسمير البشيري.. وآخرين. ولكن بحكم أن أحداث ال11 من سبتمبر قد ألقت بظلالها على العالم فتغيرت أشياء كثيرة، فلم يكن الإنشاد بمنأى عن ذلك. حيث تحول المنشدون مما كانوا عليه، وكان أبرز تحول مروا به هو موضوع أناشيدهم، حيث لم تعد القضايا الجهادية والأبيات الحماسية هي محور مواضيعهم، بل اختاروا لأنفسهم الطريق الأسلم والأهدى عبر الابتعاد عن كل ما قد يثير حولهم الشكوك خاصة بعد أن تم استعمال أناشيدهم كخلفيات لبعض العمليات الانتحارية التي حدثت في السعودية تحديداً ما بين عامي 2003 و 2004 مما أوقعهم في حرج كبير. وكان أول المتغيرين هو المنشد سمير البشيري، حيث سلك مسلك الأناشيد الاجتماعية والإنسانية وبدأ في الظهور الإعلامي، وهذا ما لم يكن معتاداً عليه لا هو ولا بقية المنشدين المشهورين الذين تم ذكرهم. وقد لوحظ على البشيري وفي أكثر من لقاء إعلامي أنه يؤكد أنه قد طوى تلك الصفحة، وأنه الآن ينظر للإنشاد بنظرة جديدة ومختلفة تخدم الوطن والمجتمع! وبعده بمدة لحق به المنشد موسى العميرة المكنى بأبي علي، وهو يصور فيديو كليب بعنوان «جنود الوطن الحر»، وهي مهداة إلى الجيش السعودي الذي كان يقاتل آنذاك الحوثيين في جنوب المملكة، وقد ظهر أبو علي مرتدياً البزة العسكرية ويؤدي التحية والسلام الوطني وظهر في الفيديو كليب وللمرة الأولى صورة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، كل ذلك بدلاً من صور التفجيرات وجموع المجاهدين وهي تهتف الله أكبر! وقد ظل سلطان الدوسري المكنى بأبي عبدالملك، عصياً على هذا التغير، وكان مضرباً للأمثال بين أرباب الفكر الصحوي بالثبات على منهجه والتزامه ما يطلقون عليه بالإنشاد الشرعي، وأيضاً مادة مغذية للإعلام الجهادي بشكل كبير. ومع مرور الوقت قل نشاطه وأصبح نادراً، وكان من آخر ما وثق له كشريط حماسي هو شريط «جواد الفجر»، ومن أبرز أناشيد ذلك الشريط، فلسطين تناديكم بصيحات جهادية/ فما في الدين من شك ولا فيه حيادية! وبعدها أخرج أناشيد كانت مختلفة تماماً عن كل ما سبق، وهي تتناول مواضيع عاطفية وروحانية. وكان في تلك الفترة وكأنه يهيئ الجمهور لمفاجأة خاصة، وأنه أخذ شيئاً من لحيته ثم بدأ بلبس العقال. ثم اختفى أبوعبدالملك وظهر هذه المرة مفاجئاً للجميع بتحول رهيب فاق تحول زميليه، حيث أصدر شريطاً إنشادياً بالمشاركة مع محمد القحطاني، ولكن هذه المرة بالإيقاعات، وقد كانت صورته أيضاً مختلفة وتشبه لحد كبير صور المغنين، وعنون الشريط ب «غير» كناية عن التحول الجذري الذي وصل إليه الرجل ليصبح بالفعل غير! وفي إعلان الشريط يحدث أبوعبدالملك الجمهور بطريقة المغنين، ويقول لهم: «ترقبوا جديدي غير..». وقد تنوعت الإيقاعات المستخدمة في الشريط ما بين الإيقاع السريع والثقيل، بل وصل التنوع حتى تم اقتباس شيء من الألوان الصوفية. ويضيف إلى مفاجآت الشريط أنشودة باللغة الهندية والانكليزية، حيث كان أبوعبدالملك ينشدها بطلاقة. وقد أثار هذا التصرف من أبي عبدالملك استياء كثير من متابعيه ومحبيه على الانترنت، الذي وصفوا ما حدث له بأنه «انتكاسة وخروج عن المنهج الصحيح الذي ظل وفياً ومحافظاً عليه». وقال أحدهم: «لكم أبكيتنا يا أبوعبدالملك وأنت تشدو بقضايا الأمة فماذا حل بك؟ لقد أجهشت بالبكاء وكأني قد فقدت ولداً، وأنا أراك تتشبه بالمغنين وتنحرف عن طريقك». كما فضل البعض الآخر أن يترحم عليه بحكم انه مات في نظرهم، وإن كان حياً! وقد انصرف كثير من محبيه على صفحة الفيسبوك يطالبونه بالعدول والرجوع، فما فعله قد أصابهم في مقتل. بينما راح البعض الآخر يرسم لها سيناريو يتوقعه له، بأنه سيطرح قريباً فيديو كليب وتظهر به النساء يرقصن، ولكن هذا سيحتاج مدة حتى تخف عليه الضغوط! فيما فضل آخرون نصيحته بقولهم «اتق الله يا سلطان». وكما تسبب هذا الموضوع في فتح باب النقاش مجدداً في قضية إباحة الموسيقى والفتوى الشهيرة