الساعة تجاوزت الحادية عشرة، في ذلك الاحد الواقع في الاول من الشهر الجاري، لحظة أقلعت مروحيتا «يو أتش - 60 بلاك هوك» من قاعدة اميركية على مقربة من جلال أباد، أكبر مدينة أفغانية على الطريق الى بيشاور الباكستانية. والتحقت بالمروحيتين طائرتا «شينوك». وتوجهت المروحيات الى أبوت أباد، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها 100 ألف نسمة، على مقربة من الهيمالايا، على بعد 80 كيلومتراً عن اسلام اباد. وفي غرفة العمليات في البيت الابيض، الساعة نحو التاسعة، تتهيأ نخبة المؤسسات الامنية الاميركية لمتابعة الهجوم مباشرة. وفي الصورة الرسمية المنشورة، يظهر 13 شخصاً، أوباما المنشغل بمتابعة الشاشة وزر قميصه الاعلى مفتوح، وملامح الفتوة بادية على وجهه. ونائب الرئيس الاميركي، جو بايدن، ووزير الدفاع، روبرتس غيتس، ووزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون. ولم ينضم مدير ال «سي آي أي»، ليون بانيتا، الى هذه المجموعة، وراقب العملية من مركز وكالة الاستخبارات الاميركية في لانغلي بفيرجينيا. والفريق المكلف القبض على بن لادن تألف من 79 عسكرياً (وكلب)، ومنهم 25 مغواراً أوكل اليهم تحديد بن لادن، واستهدافه. وانتخب الفريق هذا من وحدة «سيل» العسكرية البرية والجوية والبحرية، وهي من أبرز الفرق الهجومية خبرة وإعداداً في الولاياتالمتحدة. والفرقة هذه ملحقة بوحدة «جي أس أو سي» (وحدة العمليات المشتركة). وفرقة «سيل تيم 6» هي الأكثر سرية، ونخبة النخبة. وتجمع أشداء القوات الاميركية الذين دربوا تدريباً قاسياً لا يحتمله اربعة جنود من خمسة. ويبلغ عديد الفرقة هذه 300 جندي. ويقول خبراء ان الفرقة هذه مختصة بتصفية أهداف محددة في دول معادية. وشاركت «سيل تيم 6» في مطاردة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة، ولاحقت أعداء اميركا في الصومال واليمن... ومنذ خريف 2001، شاركت عناصر الفرقة هذه في عمليات سرية بأفغانستان والعراق. وساهم رئيسها، بيل ماكرايفن، في القبض على صدام حسين، في 2003. وبعد تحديد مخبأ بن لادن المفترض، بدأت قوات الكوموندوس التدرب في حصن يحاكي بناؤه منزل بن لادن وشيّد بناء على صور جوية وأرضية دقيقة. وفي وقت أول، أخفيت هوية الهدف المستهدف عن عناصر الفرقة. وإثر الاقلاع متوجهين الى أبوت أباد، لم يتأكد العسكر أن بن لادن هو الهدف في المبنى، ولكن ساورتهم الشكوك، بحسب ليون بانيتا. وانقضت 30 دقيقة على منتصف الليل في باكستان، حين أبلغ بانيتا أوباما وفريقه أن المروحيات بلغت الهدف. واعتمر عدد من المهاجمين خوذات مزودة بكاميرات. ورافقهم مصورون محترفون حازوا الخبرة في التصوير في مثل هذه الظروف. وفي المبنى المهاجم 22 شخصاً، بينهم 3 من زوجات بن لادن، وعدد من الاطفال، هم 8 أولاد وفتاة في الثانية عشرة. والمرحلة الاولى، رمت الى «تنظيف» الطابق الارضي. وقبل اردائه، بادر أبو أحمد الكويتي، مرسال بن لادن، الى اطلاق النار من باب ملاصق لجناح بن لادن وأقربائه الواسع. وفي الطابق الارضي، عثرت الفرقة الاميركية على حارس ثان من حراس بن لادن، الاخ أبو أحمد، وسيدة لم تعرف هويتها بعد، وشاب قيل انه أحد أبناء اسامة بن لادن، خالد أو حمزة، وفق معلومات متضاربة. وفي الطابق الاول، رصد المهاجمون رجلاً طويلاً ملتحياً ينسحب الى غرفته. فلحقوا به، فاصطدموا بإحدى زوجات زعيم «القاعدة». وهذه قفزت عليهم، وأصيبت في رجلها. ولم يتبقَ غير أسامة، فقرر المغاوير اردائه من غير أن يعطوه فرصة الترحيب بهم أو الاستسلام. «هرب، لماذا؟ ليستلّ سلاحاً؟»، يقول مسؤول أميركي. فقتل بن لادن برصاصتين في الرأس، أصابته واحدة قرب عينه اليسرى. ووصف الناطق باسم البيت الابيض صورة بن لادن القتيل ب «القاسية»، وقال غيره أن اصابته هي «ثقب في الدماغ». ووجد الاميركيون دليل أرقام هاتفية مخيطاً في بطانة ثيابه، ومبلغاً من المال في الغرفة. ووجه ضابط في فريق المغاوير رسالة الى قادته يقول فيها: «عملية جيرونيمو: العدو قتل في القتال». وسميت العملية هذه بجيرونيمو تيمناً بالزعيم الهندي الاحمر الذي كان رمز مقاومة هنود أميركا الفاتحين الاوروبيين في القرن التاسع عشر. «نلنا منه»، قال باراك أوباما. وزوجات بن لادن أكدن أن القتيل هو الزوج. وأرسلت صور الجثة الى لانغلي، وبلغت نسبة مطابقتها هوية صاحبها 95 في المئة. ودقت الساعة الواحدة و10 دقائق بعد منتصف الليل بتوقيت باكستان المحلي. ودامت العملية 38 دقيقة. ووسع المغاوير المغادرة على وجه السرعة قبل أن يتدخل الجيش الباكستاني، وهو لم يبلغ بالعملية، في ساحة العملية، ولتفادي اندلاع مواجهة معه. ولكن مهمة واحدة لم تنجز بعد. فمروحية «بلاك هوك» تعطلت جراء «عطل تقني»، ووجب عليهم التخلص منها قبل مغادرة المكان. ويتساءل خبراء مجلة «أفييشن ويك» إذا كانت المروحية هذه من طراز جديد أكثر سرية من الطراز القديم. ولم يحمل المغاوير معهم سوى جثة بن لادن. وبادر عدد منهم الى مصادرة وثائق ومئات الاقراص المدمجة، و5 كومبيوترات، و10 أقراص صلبة، ومفاتيح «يو أس بي»... أي كنز معلومات، على قول ال «سي آي أي». ففي هذه الوثائق معلومات عن خطط هجمات مقبلة، وهي تحفل بتفاصيل علاقة بن لادن بشبكة «القاعدة». وإثر عودة الجنود الى القاعدة العسكرية، بدأ الخبراء تحليل عينات حمض الجثة النووي، وتبين أن نسبة مطابقتها حمض زعيم «القاعدة» 99.9 في المئة. واحتفظ الخبراء ببعض العينات المأخوذة من الجثة. وغسلت الجثة، وحضرت للدفن بحسب طقوس الشريعة، ولفت بكفن. ونقلت الى بحر عمان، وألقيت هناك. وفي هذه المرحلة، غلبت كفة الاشادة بالعملية. ونقلت الرواية الرسمية أن سيل النيران لم يتوقف، وأن بن لادن «قاوم»، وأنه توسل بزوجاته «دروعاً بشرية». وحدهم الخبراء في هذا النوع من العمليات طعن في هذه الرواية، ولم يصدقوا ما أعلنه مستشار أوباما لشؤون الارهاب، جون بيرنان الذي قال: «لو أمكن القبض عليه حياً، لفعلنا ذلك». ودون شيبلي هو من قدامى فرقة «سيل»، وروى لصحيفة «نيويورك تايمز» وضع المغاوير البحارة في مثل هذه العمليات: «الظلام يسود، النيران تحيط بالواحد، والجثث تتساقط. والجنود مكلفون القبض على بن لادن أو قتله. ويتساءلون هل يخفي شيئاً تحت قميصه. والمغاوير يعرفون أن كل الاحتمالات قد تقع في لمح البصر. والهدف أمامهم، والتردد قد يكلفهم حياتهم». لكن ما حصل في الواقع يختلف عن هذه الرواية. فالنيران لم تحط بالمغاوير. ولكن عند وصول رجال «سيل» الى المبنى، لم يعرفوا عدد السكان على وجه الدقة. وافترضوا أن السكان مسلحون، وأعدوا العدة لمواجهتهم. والارجح أن المغاوير شنوا الهجوم ب «لمح البصر». وأعلن أوباما قبل العملية، أن سلامة المغاوير لا يفرط بها وهي فوق كل اعتبار. و «لن نمنح بن لادن أو احد مساعديه فرصة اطلاق النار على رجالنا»، قال أوباما. ومع مرور الوقت، اختلفت روايات الهجوم، وفقد بريق البطولة العسكرية. * مراسل، عن «لوموند» الفرنسية، 8-9/5/2011، اعداد منال نحاس