ليس الردّ الإسرائيليّ الوحشيّ بالمستغرب، لا سيّما اليوم حيث يتصرّف الطاقم الحاكم في الدولة العبريّة بتوتّر ملحوظ. المستغرب هو امتحان الاسرائيليّين وامتحان ردّهم، علماً أنّ التوقّع المسبق لعنفيّته ليس بالعمل الصعب. يكفي لذلك أن نتذكّر التمرين التركيّ الصغير في عرض البحر. ومصدر الاستغراب أنّ المصالحة الفلسطينيّة الأخيرة، المرعيّة مصريّاً، تضع الكرة سياسيّاً في الملعب الاسرائيليّ. كما أنّ إعلان الدولة سيكون مرهوناً بالدعم الذي تقدّمه القوى الغربيّة المؤثّرة والمانحة، لا ب «زحف العودة». ثمّ إنّ ما جرى، وفي حال تصاعده، لن يتسبّب إلاّ بشحذ النزاعات الأهليّة في البلدان المحيطة بإسرائيل. بيد أنّ الاستغراب ينبع، قبل كلّ شيء آخر، من فتح جبهة الجولان السوريّة، للمرّة الأولى منذ 1974، أمام «الزحف»! فكأنّ ثمّة من يريد دماً فلسطينيّاً تسفكه إسرائيل يموّه الدم السوريّ الذي يُسفك في تلكلخ وحمص ودرعا. وهذا تكرار بلا قعر للوظائف نفسها: أن يبقى الدم الفلسطينيّ رخيصاً، يُبذل كرمى للأنظمة العربيّة، لا سيّما منها النظام السوريّ، وأن تبقى القضيّة الفلسطينيّة ذريعة لاستخدام الأنظمة المذكورة، وشعبُها قوّةً احتياطيّة لخدمة تلك الأنظمة، لا سيّما منها النظام السوريّ، وأن تبقى الأجندة «الوطنيّة» مستنفَرَة للحؤول دون أجندات الحرّيّة والكرامة الانسانيّة. وعلى من يملك أدنى شكّ في هذا أن يراجع كلام السيّد رامي مخلوف إلى «نيويورك تايمز»، خصوصاً أنّ الأحداث الأخيرة وفّرت لهذا الكلام تأويله البليغ: ها قد فتحنا الجبهة فبدا الاستقرار الإسرائيليّ مربوطاً فعلاً باستقرار سوريّة! لكنْ لنلاحظْ أيضاً أنّ مصر الدولة، والأمّة، والدولة – الأمّة، والبلد المتّجه، رغم كلّ الصعاب، إلى درجة من الاستقرار، والراعي لمصالحة الفلسطينيّين تمهيداً لخوضهم المعركة السياسيّة مع إسرائيل...، مصر هذه حالت دون «الزحف» المسبّب لموت الفلسطينيّين. فالقاهرة، على عكس دمشق، لا تريد ذريعة تستخدمها لكي تتكتّم بها على شيء يُراد إخفاؤه، وهي طبعاً لا تريد أن يُسفك مزيد من الدم الفلسطينيّ. وهذا السلوك تلقّفه وفهمه الفلسطينيّون المعنيّون بالأمر، بمن فيهم خالد مشعل نفسه الذي رأى أنّه «ليس من حقّ أحد إرهاق مصر بمطالب خارجيّة الآن»، وإن كان لا يزال مطلوباً وبحدّة أن تتلقّفه إسرائيل وتدرك أنّ العزوف عن حلّ المشكلة الفلسطينيّة سيبقى مصدراً خطيراً لتوتّر المنطقة وتوتّرها هي. وهذا ما يدعو المعارضة السوريّة التي تمسك بناصية الانتفاضة إلى التنبّه، فلا تقع أسيرة الولع المرَضيّ المزمن بتسجيل المواقف الخطابيّة السهلة حيال إسرائيل. ذاك أنّ مثل هذا الولع لا يعني، في آخر المطاف، سوى أمرين: تزويد النظام بسترة النجاة «القوميّة» على حسابها وحساب الشعب الذي تقوده، وإعلان عجز الانتفاضة نفسها عن تحقيق انتصارها بما يلاقي، في منتصف الطريق، عجز النظام عن تحقيق انتصاره. ذاك أنّ الانجرار وراء «القضيّة الفلسطينيّة» بالشكل السائد الذي تُطرح فيه، علامة لا تخطئ على الفشل. وهناك عشرات الأمثلة التي تقول ذلك بالفم الملآن. لهذا فحينما يتكرّر التقاطع بين الأنظمة والانتفاضات حول هذه القضيّة لا يكون ذلك إلاّ تقاطعاً بينهما عند ضعف تكوينيّ جامع، يحول بين الأنظمة وبين كونها أنظمة، وبين الانتفاضات وبين كونها انتفاضات. فماذا إذا أشعل النظام السوريّ، على طريقة «بعدي الطوفان»، جبهة الجولان في الغد، أو إذا أشعل «حزب الله» جبهة الجنوب؟ هل تُطوى حينذاك مسائل الحرّيّة والكرامة ونعود إلى حيث لا يعلو على صوت «المعركة» صوت؟