صدر أخيرًا للكاتب والصحافي الإسرائيلي يغئال سارنا (من فريق صحيفة «يديعوت أحرونوت») كتاب جديد عبارة عن رواية وثائقية تحمل عنوان «عميل مشبوه» تتضمن سيرة حياة سامي هوخبرغ، أحد مؤسسي مستوطنة نس تسيونا التي أُقيمت على أراض اشتُريت من قرية وادي حنين الفلسطينية في محافظة الرملة بدءًا من عام 1883، والذي تربطه به صلة قربى بعيدة. سامي هوخبرغ وُلد عام 1869 في إحدى مدن جمهورية مولدافيا الحالية لأسرة يهودية إقطاعية، وبتأثير أفكار حركة «محبو صهيون» هاجر بمفرده إلى فلسطين عام 1889 ثم أقنع عائلته كلها بالهجرة إليها وشراء أرض فيها لتوسيع نواة المستوطنة المذكورة. لكنه سرعان ما انتقل منها إلى دول أخرى إلى أن استقر به المقام في الأستانة، عاصمة الإمبراطورية العثمانية. وهناك التقى زئيف جابوتينسكي، زعيم «التيار التنقيحي» في الحركة الصهيونية، وأسسا معًا إضافة إلى شخصيات أخرى شبكة صحف عملت على دفع أفكار الحركة الصهيونية من طريق إقناع زعماء العثمانيين بأن الحركة الصهيونية ستكون موالية لإمبراطوريتهم، ومع بداية ظهور مؤشرات الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) تنقل كثيرًا في كل من برلين وفيينا وباريس وسائر أنحاء أوروبا وكذلك في الشرق الأوسط إلى أن قضى مسمومًا عام 1917 في أحد مطاعم الأستانة عن عمر يناهز ال 46 سنة، ولا يزال مكان دفنه مجهولاً. ويشير المؤلف إلى أن هوخبرغ غُيّب عمدًا من «البانثيون» الإسرائيلي على رغم أن مساهمته في إقامة «إحدى المستوطنات اليهودية القديمة» تبدو كبيرة ومهمة، وذلك لأنه كان من دعاة التقارب مع العثمانيين وفي ما بعد مع الألمان. ومثل هذه الدعوة لم تحظ آنذاك بتأييد واسع في أوساط «الييشوف» اليهودي في فلسطين، ويُشار إليه في السرديات الصهيونية الرسمية فقط من خلال تقرير كتبه عام 1913 حول الحركة القومية العربية ورفعه إلى القيادة الصهيونية. وشدّد فيه على أنه يتعيّن على هذه القيادة أن تستوعب «أهمية التقارب مع الحركة القومية العربية»، وعلى أنها في حال إقدامها على ذلك يمكنها أن تحول دون ما أسماه «تطرّف» هذه الحركة إزاء المشروع الصهيوني، بل إنه اشترك بصفة مراقب في المؤتمر العربي الأول الذي عقد في حزيران (يونيو) 1913 في العاصمة الفرنسية باريس والذي أسسته مجموعة من المفكرين والسياسيين القوميين العرب. وكان يهدف إلى «البحث عن التدابير الواجب اتخاذها لوقاية الأرض المترعة بدم الآباء العظام ورفات الأجداد الأباة من عادية الأجانب وإنقاذها من صبغة التسيطر والاستبداد وإصلاح أمورنا الداخلية»، بحسب ما ورد في بيانه التأسيسي. وحاول أن يتوصل في أثنائه إلى تفاهمات بين الحركة الصهيونية والعرب، لكن محاولته باءت بالفشل. يقوم المؤلف برحلة نبش في ثنايا الماضي في شأن وقائع سيرة حياة هوخبرغ، لافتًا إلى أن الغاية الأبعد منها هي فهم ما يحدث في الحاضر ارتباطًا بما كان في تلك الفترة الحرجة الممتدة من آخر القرن التاسع عشر التي شهدت بداية تأسيس الحركة الصهيونية حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهي فترة ترتبت عليها تطورات بالغة الأهمية والخطورة سواء بالنسبة لمستقبل الصراع في فلسطين أو بالنسبة لوقائع المشروع الصهيوني في هذا البلد. وتبيّن رحلته، في ما تبيّن، أن هوخبرغ كان من أوائل «الطلائعيين» الصهاينة الذي حاول أن يتوصل إلى اتفاق شامل مع العرب، لكنه في الوقت نفسه كان عميلاً للاستخبارات العسكرية الألمانية. وبرأي سارنا فإن هذه المحاولة على ما انطوت عليه من نية التقارب مع العرب جعلت هوخبرغ شخصًا مغايرًا عن سائر رجالات الحركة الصهيونية في ذلك الوقت الذي كانت الغلبة فيه من نصيب الأشخاص الذين تحدّدت غايتهم سلفًا وعمدًا في إنكار الوجود القومي العربي وتهميشه تمهيدًا للقضاء عليه، غير أن مغايرته ضاعت في خضم عمالته لألمانيا التي كانت على وشك أن تخوض غمار حرب عالمية طاحنة ضد بريطانيا وفرنسا. ويستحضر المؤلف ادعاء لهذا الشخص فحواه أن عدم التحادث مع الجار القريب (العربي) من شأنه أن يؤدي إلى تداعيات ليس أبسطها اشتعال البلد برمته، مثبتًا إياه على أنه كان بمثابة تنبؤ مبكر لما حدث هنا فعلاً في وقت لاحق من حريق ما زال لهيبه مستعرًا حتى الآن. وربما يكمن في هذا الادعاء أيضًا السبب الحقيقي الذي يقف وراء مسعى بُناة الذاكرة القومية الإسرائيلية نحو جعل سيرة هوخبرغ نسيًا منسيًا في السردية الإسرائيلية، خصوصًا في ضوء حقيقة كون الكينونة الإسرائيلية مشيّدة على أساس قدر كبير من النسيان أو التناسي، على حدّ قول سارنا. ومن المعروف أن الذاكرة والنسيان هما جزء من منظومة الهيمنة ومن منظومة بناء الذاكرات القومية. ومشروع بناء «الأمة الإسرائيلية الحديثة» تضمن وفرة من الأشياء التي كان ينبغي ل «الذاكرة القومية» نسيانها (ومن ذلك يذكر الباحث إسحاق لاؤور، مثلاً، الييدشية باعتبارها لغة التنويريين، وما جرى ارتكابه ضد اليهود الشرقيين الذين جلبوا إلى هنا، وطرد الفلسطينيين في عام 1948). كما أنه تضمن وفرة من الأشياء التي كان ينبغي بتلك الذاكرة أن تتذكرها، بدءًا من أسطورة «الشعب المختار»، وجيل الآباء المؤسسين، والهيكل الثاني، وثورة بار- كوخبا، وانتهاء ب «تمرّد غيتو وارسو» باعتباره مندوبًا تمثيليًا لذكرى المحرقة النازية. مهما يكن فإن رواية «عميل مشبوه» تكشف سيرة شخصية صهيونية أخرى اتسمت بالسذاجة المفرطة، واعتقدت أنه يمكن إيجاد نوع من التقارب بين الحركة الصهيونية وبين الحركة القومية العربية، في منأى عن طبيعة المشروع الكولونيالي الذي أطلقته الحركة الأولى إزاء فلسطين بعد أن وُلدت من رحمه واستلهمت أفكاره ووسائله. وفي الآن ذاته كانت تلك الشخصية بمنزلة إرهاص لشخصيات أخرى في أعوام لاحقة اشتد فيها غلواء هذه الحركة أكثر فأكثر. ولعل أشهرها هانس كوهين الذي كان من أشد أنصار المقاربة الثنائية القومية، لكن واقع فلسطين في عشرينات القرن العشرين الفائت صفعه، وكانت ثورة البراق (1929) وبخاصة رد الفعل العنيف من جانب الحركة الصهيونية وبريطانيا على هذه الثورة هي السبب المباشر وراء استقالته من الحركة الصهيونية ووراء قراره مغادرة فلسطين برفقة زوجته وابنهما إلى الولاياتالمتحدة من دون أن يعود إليها بتاتًا، غير أن خلفية هذه الاستقالة كانت آخذة في التبلور قبل ذلك التاريخ، ارتباطًا باعتقاده أن تطبيق فكرة الصهيونية لا بُدّ من أن يكون مقرونًا بممارسات ميدانية مرفوضة من الناحية الأخلاقية. ولا تزال أصداء ما كتبه كوهين في رسالة استقالته في حينه تتردّد إلى الآن، ولا سيما قوله: «إن الحركة القومية العربية آخذة في تعزيز قوتها، وستستمر في تعزيزها. وبالتالي فإن التوصل إلى اتفاق معها، بعد فترة قصيرة، سيكون أصعب مما هو عليه الآن، حتى ولو ازداد عددنا في البلد بعشرات ألوف أخرى». وأضاف: «أعتقد أن في إمكاننا البقاء فترة طويلة في أرض إسرائيل (فلسطين)، بل والتوسع أيضًا فيها، بداية بمساعدة (الحراب) الإنكليزية، ومن ثمّ بمساعدة حرابنا الذاتية التي نطلق عليها اسمًا معيبًا هو «هاغاناه»- أي الدفاع (...) لكن بهذه الطريقة لن يكون في إمكاننا البقاء من دون حراب، وستغدو الوسائل هي التي تحدّد أهدافنا وتبرّرها، أولاً ودائمًا».