لم يكن الأمر يحتاج إلى الدارسين والمختصين والمهتمين بشؤون الحركات الإسلامية لتوقع أن أولئك الذين تظاهروا تأييداً لأسامة بن لادن بعد صلاة الجمعة في القاهرة سيكون هدفهم المقبل أولئك الذين شكل زعيم «القاعدة» يوماً جبهة لقتالهم. فهؤلاء انفسهم أو زملاء لهم قطعوا إذن رجل وهاجموا مساجد واحتلوا بعضها، وهاجموا الأزهر وفتاويه. والأرجح انهم سيستمرون في هذا السلوك، مستغلين المناخ الجديد في مصر حيث لم تتضح بعد أسس المرحلة المقبلة. وما يُقال عن أسباب مباشرة لاستهداف كنائس ومسيحيين لا يمكن فصله عن ممارسات هؤلاء المتشددين، بغض النظر عن التسمية التي يطلقونها على انفسهم. وما يُقال عن تدخل لإجهاض الثورة المصرية، عبر تسعير الفتنة الطائفية، أو إلصاق التهم بالنظام السابق، لا يُلغي حقيقة وجود هؤلاء المتشددين واتساع مساحة نشاطهم وجمهورهم، وسعيهم إلى فرض نظرتهم الخاصة على المجتمع المصري. لقد اعلن مسؤولون مصريون أن ما جرى في امبابة عنى أن مصر في خطر وتنادى كثيرون إلى تأكيد الوحدة الوطنية وهددت الحكومة بالضرب بيد من حديد. كل هذا يبقى في إطار المعالجة اللاحقة لحادث امني كبير. لكن المشكلة تبقى قائمة ما دام الجدل لم يحسم بعد في شأن طبيعة النظام المقبل واعتماد الدستور الملائم له. إذ أن استمرار المشكلة هو الذي يجعل أفراداً يجعلون من انفسهم قيّمين على تطبيق ما يعتبرونه واجبهم، ويطبقون بأنفسهم ما يُفترض أن يكون من وظيفة الدولة المصرية، ومن دون أي اعتبار للمعايير المدنية. وليس صدفة أن تطفو هذه الظاهرة مع احتدام الجدل على التعديلات الدستورية، والتي حسمها الاستفتاء على نحو يضعف المطالبات بمدنية الدولة والمساواة بين المواطنين في نظر الدستور. وفي هذا المعنى، لوحظ أن حملة تأييد الاستفتاء ركزت على جانب الشريعة في التعديلات وليس على الجانب السياسي. وهذا ما أعطى مبرراً للمتشددين في فرض تفسيرهم الخاص، وربما شجعهم في تحديهم للمعنى السياسي والمدني للدستور. بكلام آخر، إن المناخ الذي رافق سقوط النظام السابق والذي تميز بعودة قوية للإسلاميين، بانتماءاتهم المختلفة، ساهم في تشجيع الأصوليين على التمادي في سعيهم إلى فرض توجهاتهم. صحيح أن النظام السابق، في عهدي السادات ومبارك، عمل على استثمار الإسلاميين في معاركه الداخلية. لكن بنية النظام لم تكن تتيح لهم تجاوز الحدود التي رسمها لهم. فسقط الأول برصاصهم وخاض الثاني مواجهات مسلحة ضارية معهم، وصولاً إلى فرض مراجعات فكرية عليهم. أما المناخ الحالي فهو يعيد إلى الأذهان التجربة الباكستانية، حيث يقوم الجيش بدور ضابط الإيقاع في التحالف مع الإسلاميين. ودفع الرئيس السابق برويز مشرف ثمن محاولته انتزاع حيز مدني للدولة، خصوصاً بعد قضية المسجد الأحمر الذي راح شيوخه وطلابه يطبقون الحدود بأنفسهم، فيؤثمون ويفرضون الأحكام وينفذونها. واليوم تشهد باكستان، إلى الحركات المنضوية في إطار «طالبان» والداخلة في مواجهات مسلحة مع الحكومة ورموزها، حركات إسلامية متشددة تفرض بنفسها مفاهيمها للشريعة وتطبقها، إلى حد تنفيذ إعدامات في حق من يعتبرونهم في عداد الكفار. حتى باتت باكستان شبه «إمارات» تخضع في تيسير شؤونها اليومية لاجتهادات «ولاتها» وليس للإدارة الحكومية. بكلام آخر، ساهمت رعاية الجيش الباكستاني، منذ الاستقلال وخصوصاً بعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، للحركات الإسلامية المتشددة والأصولية في مناخ التفكك الداخلي وانحسار الدولة المدنية. ولم يصمد النظام الباكستاني حتى الآن في مواجهة الأصوليين إلا بفضل امتلاكه السلاح النووي الذي يثير كابوس سقوطه في ايدي المتشددين رعباً عالمياً. وإن لم تصل الأمور في مصر إلى هذا الحد الباكستاني، فإن المناخ العام التي يحكم طبيعة العلاقة بين السلطة الموقتة وبين الإسلاميين قد يدفع في اتجاه النموذج الباكستاني ما لم تُستعَد سريعاً قواعد الدولة المدنية.